غريب أمر السيد جميل السيد رئيس الامن العام اللبناني السابق, الذي يثير الاتهامات دون رابط ويتهم بلده لبنان بأنه لا دولة ولا يحزنون. وغريب أيضا أمر الذين يقفون وراءه ويؤيدونه دون رابط ولا ضابط فقط لأنه يوجه الاهانات لرئيس الحكومة ويقسم بأنه سيأخذ حقه منه باليد وليس بالقانون. وغريب ثالثا أمر هؤلاء الذين يرون أن لبنان الحقيقي والمريح بالنسبة لهم هو الذي تتعطل فيه مرافق ومؤسسات الدولة عن العمل وأن يتوقف القضاء عن أداء مهمته في الحصول علي حقوق الناس ومنع الانتهاكات وتجسيد الدستور. وغريب رابعا أمر قوي سياسية تتدعي انها مع الدولة ومع السلم الاهلي ومع حماية لبنان, ولكنها تتخذ مواقف سياسية وإعلامية تزيد الطين بلة, وكأنها تحضر الأذهان لعملية انقلاب ميليشياوي في اقرب فرصة ممكنة. ربما كما حدث من قبل. الأمور الغريبة في لبنان كثيرة للغاية, ومثيرة جدا, لأنها ببساطة تريد أن تنقض علي صيغة الدستور القائم وتفرض طريقة حياة لا علاقة لها بالنظام العام أو ما يرتضيه غالبية اللبنانيين التواقين للاستقرار والحرية والهدوء والتطلع إلي المستقبل بثقة. فتنة السيد جميل السيد تجسد للأسف الشديد أسوأ ما في لبنان المعاصر, ففيها إصرار علي الخروج عن القانون من خلال توجيه الاتهامات دون سند, بل والإصرار علي محاسبة من يراهم قد اخطأوا في حقه بيده وفي الشارع وليس بيد القانون وعبر الاقنية الشرعية, وفيها إصرار علي تحدي الاجراءات القانونية المعمول بها والضرب بها عرض الحائط, وفيها توظيف للتباينات المذهبية والطائفية لاغراض شخصية, وفيها تورط قوي سياسيه لدعمه, فقط كنوع من النكاية في حكومة سعد الحريري. والأكثر من ذلك فالرجل لم يتورع عن توجيه اتهامات لمصر والاردن باعتبارهما يحضران لبنان لفتنة وانقلاب علي المقاومة, دون أن يكون لديه أي دليل سوي لقاءات روتينية يقوم أحد الدبلوماسيين المصريين في السفارة المصرية في بيروت مع عدد من المسئولين من كافة الاتجاهات السياسية والحزبية. وكأن المطلوب من الدبلوماسيين المصريين عدم التواصل مع كبراء البلد والمسئولين ذوي الحيثية, وكأن أيضا ما هو حلال للدبلوماسيين من إيران مثلا يعد حراما علي الدبلوماسيين المصريين. مشكلة جميل السيد انه شغل مواقع أمنية كبيرة, وكان أحد رموز حقبة التواجد السوري العسكري في لبنان طوال29 عاما متصلة, وظل لفترة طويلة يتحكم في مصائر اللبنانيين دون رادع, ويفرض هيمنته علي الامن العام باعتباره امتدادا للنفوذ العسكري السوري آنذاك. وطوال مدة عمله وحتي حادثة اغتيال رفيق الحريري الشهيرة في فبراير2005, لم يكن يجرؤ أحد من اللبنانيين أيا كان منصبه أو موقعه السياسي أن يطالب بحق أو يسعي بالقانون لوقف إهانة أو إذلال شخصي, لا لشئ الا لقوة جميل السيد وكونه فوق القانون. وكثير من الذين تابعوا مسيرته في جهاز الامن العام اللبناني يعرفون كثيرا من التفاصيل عن أساليب عمله في الحصول علي عوائد وهبات من أفراد وعائلات لمنع إساءة او لتمرير مكسب بدون حق. وقصره المهيب الذي يتباهي بظهوره الواضح في غوغل ايرث خير شاهد. لكن الرجل في موقفه المزدوج الأخير, الذي هدد فيه رئيس الحكومة شخصيا, ورفض فيه المثول أمام قاضي التحقيق للافادة منه فيما هو منسوب إليه من هذه التهديدات وأقوال اخري تعرض السلم العام للخطر, ثم وقوف قوي سياسية أبرزها حزب الله وراءه تطالب بوقف الاجراءات القانونية بحق جميل السيد واعتبارها أمورا مسيسة, أظهر أن لبنان بحاجة ماسة إلي القيادات والسياسيين الذين يضعون مصلحة الوطن فوق كل اعتبار, ويتمسكون بالقانون والدستور قبل أي شئ آخر. وأظهر أيضا أن مستقبل لبنان لم يحسم بعد لصالح الدستور, وإنما هناك من يطرح رؤية بديلة تريد أن تطيح بالدولة والمؤسسات وتثبت توازنا طائفيا ومذهبيا جديدا. والظاهر هنا أن هؤلاء يريدون أن يتنصل لبنان من التزاماته الدولية, لاسيما المحكمة الدولية التي هي مؤسسة دولية تحت رعاية الأممالمتحدة ومجلس الأمن سواء رضينا عن ذلك أم لم نرض, وليس بمقدور أي حكومة لبنانية ان تتبرأ منها كما يريد حزب الله والمؤيدون له. لقد كانت شجاعة كبيرة أن يتضمن الحوار الصحفي مع رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري والمنشور في جريدة الشرق الاوسط في عيد الفطر المبارك, اعترافا بالخطأ في حق سوريا وقعت فيه قوي14 آذار حين اتهمت سوريا سياسيا بأنها وراء مقتل الحريري الأب, وأن هذا الاتهام السياسي قد انتهي, وأن ثمة صفحة جديدة ناصعة البياض قد بدأت بالفعل بين لبنان وسوريا يجب تنميتها وتدعيهما بالمصالح المشتركة والرؤي المتجانسة. هذه الشجاعة محسوبة وتعد امتدادا للتطورات الايجابية التي شهدتها العلاقات اللبنانية السورية مؤخرا بعد أن استطاع الملك عبد الله عاهل السعودية أن يدفع بالمصالحة مع دمشق إلي آفاق أرحب, كان لها انعكاساتها الايجابية علي مجمل الوضع اللبناني. غير أن الامور في لبنان ليست ذات بعد واحد. فهناك قضية المحكمة الدولية الخاصة بمقتل رفيق الحريري التي يتردد في لبنان أنها سوف تصدر قرارا ظنيا أو اتهاما لعناصر من حزب الله. الامر الذي سيثير زلزالا سياسيا وأمنيا بكل معني الكلمة حال حدوثه. وهناك النفوذ الايراني المشهود الذي لا يريد لبنان أن يكون جزءا من التفاعلات الاقليمية الساعية لدعم تسوية سلمية للقضية الفلسطينية تزيح عن لبنان كاهل التوطين واللاجئين الفلسطينيين والتهديدات الاسرائيلية المتتالية. وهنا يظهر التداخل بين التطور في علاقات بيروتودمشق إيجابا كما حدث في الأشهر الاخيرة, وارتفاع اصوات قوي8 آذار المعارضة بضرورة تجاوز هذه المحكمة وان يتبرأ منها سعد الحريري باعتباره ولي الدم, ووجود بعض هؤلاء يرون في الدفء الجديد بين الرئيس بشار والرئيس سعد الحريري دليلا علي أن قرار الاتهام لعناصر من حزب الله بات وشيكا, وأن الضرورة تتطلب من الآن تصعيد الموقف الداخلي حتي لا يصدر هذا القرار من ناحية, وألا ينفرد سعد الحريري بالعلاقة المتينة مع سوريا من جهة أخري. مثل هذه العلاقات المتداخلة ترتبط برهانات خيالية لبعض القوي اللبنانية التي تصر علي وقف العدالة الدولية لحادثة مقتل رفيق الحريري, وإلا كان البديل هو دفع لبنان إلي مواجهة أمنية عنيفة, وصفها النائب اللبناني حسن فضل الله المنتمي الي حزب الله بأنها ستكون فتنة شديدة لم يعرفها لبنان من قبل. وهو تصريح واضح المعني والدلالة. هذا الرهان الخيالي يفترض أن سعد الحريري الآن في موقف أضعف مما كان عليه من قبل, وأنه عبر ضغوط سياسية وإعلامية يمكنه أن يقدم التنازل المطلوب وهو التبرؤ الكامل من المحكمة الدولية سواء أصدرت قرارات ظنية بحق أعضاء من حزب الله أم لا. وهنا يأتي موقف جميل السيد باعتباره حالة رمزية فاقعة اللون لهذه النوعية من الضغوط. والمؤكد أن هناك خطأ كبيرا في مثل هذا التحليل. فمن الصعب قبول افتراض ضعف موقف الرئيس الحريري لمجرد أنه اعتذر عن خطأ سياسي وقع فيه قبل عدة سنوات, فالرئيس بشار الاسد مثلا اعترف بأخطاء ارتكبتها بلاده في لبنان في خطاب شهير مهد للخروج من لبنان عام2005, ولم ينظر إليه باعتباره نقطة ضعف وانما نقطة قوة معنوية علي الاقل. وأيضا فمن الصعب قبول قوي14 آذار لفكرة التبرؤ من المحكمة الدولية لاسباب عديدة. وهناك الأهم من كل ذلك وهو أن المحكمة ليست شأنا لبنانيا خاصا, بل هي شأن دولي تتحكم فيه القوي الكبري, ومن غير المتصور أن تقبل هذه القوي الدولية إلغاء المحكمة قبل أن تنهي المهمة الموكولة إليها بحجة أن توجيه الاتهام لعناصر حزبية قد يثير فتنة وقلاقل في البلاد. إن تحقيق العدالة وإنهاء ملف مقتل رفيق الحريري يتطلب التعاون مع المحكمة الدولية, حتي يحصل كل ذي حق علي حقه. وبذلك تنتهي حقبة مثيرة من حياة لبنان واللبنانيين. أما القول بأن المحكمة مسيسة وأن الأفضل إلغاؤها ففي هذا ما سيجعل لبنان علي صفيح ساخن لعقود طويلة مقبلة. والأحري والأولي أن تنتهي المحكمة من الوجود بعد أن تقدم الجناة الحقيقيين إلي العدالة وليس أن تتركهم طلقاء دون محاسبة. وتأييد العدالة يقضي ايضا إنصاف كل مظلوم عبر الأقنية الشرعية, وإذا كان جميل السيد قد ظلم بالحبس أربع سنوات وبتشويه السمعة نظرا لوجود شهود زور أحكموا عليه الحصار في لحظة زمنية ما, فالافضل ان يتم إعمال القانون ومساعدة المؤسسات الأمنية والقضائية علي التعامل الرصين مع هذا الملف حتي يحصل السيد علي حقوقه إن كان له حقوق. أما الأساليب الهمجية وأخذ الحقوق في الشارع وتحدي أجهزة القضاء وإثارة الفتنة وإهانة المؤسسات السيادية, فهذا هو الخطأ الاكبر, بل هو الانحطاط بعينه.