لهذا خلق الله الندم.. هذه آخر جملة في آخر مشاهد مسلسل الجماعة قالها مرشدها حسن البنا بعد أن كتب رسالته: ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين. ثم تدفعه الأحداث لأن يقول: أنا مرشد مخلوع ولا ينقص سوي إعلان هذا مضيفا اللي مش هيقدر يخعلني هيقدر يقتلني, وبعد أن تخرج زمام الأمور عن سيطرته وتبلغ ذروة الندم مداها يردد في أس: ياريت الأيام ترجع كنت اكتفيت بمائة شاب أعلمهم أصول الدين وأقف بهم يوم القيامة, وبعد أن ينتبه البنا بأن الأيام الماضية لا تعود فنجده يقول: لهذا خلق الله الندم.. هكذا قال المرشد.. لكن الندم لا يشفع لأصحابه في ذاكرة التاريخ. ما بين الصورة الدرامية التي قدمها لنا المسلسل والواقع الذي سجلته كتب التاريخ تظل الصورة الذهبية حول هذه الأحداث تطرح علامات استفهام عديدة لعل في مقدمتها: إذا كانت الجماعة تهدف الانخراط داخل المجتمع ولا تترك فرصة للعمل السياسي إلا وتشارك فيها.. فلماذا لا تعتذر عن جرائم العنف التي ارتكبتها من خلال, نظامها الخاص؟! ولماذا لا تكتب الجماعة تاريخها؟! أم أنها تخشي أن تصطدم بجرائم العنف؟! وما هي المخاوف الحقيقية لو أنها أدانت كل الأفكار التي صنعت هذا العنف؟! ولماذا كل هذا التناقض داخل الجماعة حول ملف العنف منذ مؤسسها حسن البنا الذي تعاقد علي شراء السلاح وندم علي العنف؟! ولماذا استعان بعبد الرحمن السندي مسئول النظام الخاص ثم يحمله المسئولية جراء ما حدث؟ بداية قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة فلابد من الحديث عن أن هناك ثوابت في البناء الفكري للجماعة منها مقولات بأن الجماعة لا تخطيء, وأنه إذا أخطأت فيجب التجاوز عن خطءها.. فضلا عن ثوابت أخري مثل مقولة مرشدها الأسبق مصطفي مشهور: من يعادون الاخوان يعادون الله ورسوله غير أن هناك مفاهيم قديمة لدي أعضاء الجماعة بأنهم يمثلون السماء ويتحدثون نيابة عنها وعن الاسلام. هذه المفاهيم وغيرها صنعت بالضرورة ثوابث داخل عقول الأعضاء جعلتهم يبحثون عن تبريرات لأي أحداث حتي لو كانت عنفا, بل ان بعض قيادات الجماعة اعتبروا هذه الأحداث نوعا من البطولات التي حققوها ورسالة كان لابد من تنفيذها. من يقترب من ملف هذه الجماعة يكتشف أن هناك وجهات نظر مختلفة, وتباين داخل الجماعة نفسها بشأن جرائم العنف التي ارتكبت في حق المجتمع, لدرجة أن البعض يحاول تبريرها تارة والبعض الآخر يري أنها أصبحت في طي النسيان تارة أخري.. لكن التاريخ لا يزال شاهدا علي وقائع العنف التي لم تنقطع مثلما شهدها الواقع ومثلما قدمها لنا السياق الدرامي للمسلسل بدءا من ميليشيات جامعة الأزهر, مرورا بحادث اغتيال القاضي الخازندار والنقراشي باشا وحتي محاولة اغتيال الرئيس عبدالناصر وحادث السيارة الجيب ومحاولة تفجير مكتب النائب العام الذي كانت به أوراق قضية السيارة والسلاح والتي تدين أعضاء الجماعة والتي أبدع المخرج محمد ياسين في تقديم مشهد الحقيبة التي انفجرت علي رءوس النساء والأطفال والشيوخ والأبرياء لتكشف الحق الضائع لهذا المجتمع من جراء هذه الأحداث والجرائم وما صاحبها من غليان وتخبط علي كل الأصعدة ألا تحتاج إلي اعتذار من قبل الجماعة؟! النظام الخاص خطاب المحظورة حول مسألة العنف يتسم حسب رؤية المفكر صلاح عيسي رئيس تحرير جريدة القاهرة بالمراوغة, إذ أنهم يعتبرون أن الجهاز الخاص الذي ارتكب أحداث العنف مفخرة للجماعة, وأنه أنشيء لمقاومة الاحتلال البريطاني والغزو الصهيوني لفلسطين.. لكن هذا غير صحيح في وثائق صلاح عيسي الذي يؤكد أن الذين شاركوا في حرب1948 لم يكونوا من النظام الخاص بل كانوا أعضاء من المحيط العام للجماعة, وأن حسن البنا برر ذلك بأنه خصص النظام الخاص لإعادة الخلافة الإسلامية, ولا يمكن أن يهدر طاقاته وإمكاناته في هدف فرعي مثل تحرير فلسطين, ولم ينكر عيسي أن كل التبريرات التي يسوقها الاخوان حول أحداث العنف كلها تبريرات مصنوعة ومغلوطة, وأن النظام الخاص كان منظمة للعنف متكاملة الأركان أقرب ما تكون للجيش تضم وحدات وأقساما للتدريب علي العنف. وفيما تظل فكرة الاعتذار وإدانة أحداث العنف مهمة صعبة داخل الجماعة منذ القدم نجد صلاح عيسي يذكرنا بالمشهد الذي طلب فيه إبراهيم عبدالهادي رئيس وزراء مصر من حسن البنا أن يعتذر فرد البنا بعد صمت طويل: ما فيش حاجة غير كده.. يا فندم.. وهذا يعني أن الخطاب بشأن العنف لا يزال غامضا ومراوغا, غير أن رئيس تحرير جريدة القاهرة ينتبه إلي أن معظم المرشدين للجماعة مثل مصطفي مشهور, ومهدي عاكف, ومحمد بديع وغيرهم جاءوا من النظام الخاص وهذا معناه أن فكرة العنف لا تزال قائمة لم تغادر أذهانهم, ولم يغفل عيسي تأكيد أن النظام الخاص هو المسئول عن قتل حسن البنا بدعوي أنه الذي أعطي الذريعة لقتله. الهروب والالتفاف المرشد السابق للجماعة مهدي عاكف استهل عهده مؤكدا أن الجماعة لا تعتذر.. وهذا فسره الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع بأن الجماعة تسير كما علمهم مرشدها الأول عندما وضع لهم المنهاج قائلا: هذا المنهاج كله من الاسلام وكل نقص فيه فهو نقص من الاسلام ذاته.. وبالتالي فإنهم يعتبرون أنفسهم يتحدثون نيابة عن السماء, غير أن الجماعة تحاول دائما الالتفاف حول الاعتذار بطرح وجهات نظر متباينة ومتناقضة.. فيتذكر د. السعيد موقفا له في أحد البرامج التليفزيونية عندما سأل المرشد الأسبق مأمون الهضيبي.. ما موقفكم من العنف؟! فرد الهضيبي: منذ عام1956 لم نتهم في جريمة عنف واحدة, وهنا اعتبر د. السعيد أن رد الهضيبي مستندا للقانون الوضعي وأن الجماعة تحاول اسقاط العنف بالتقادم رغم أنها ضد القانون الوضعي لكنها توظفه أحيانا إذا تطلب الأمر لخدمة مصالحها. الأدهي من ذلك في رأي د. السعيد أنه لا تقادم في قضايا الإرهاب التي يروح ضحاياها نساء وأطفال وشيوخ وأبرياء. لأنه مهما طال الأمد فسوف يكون هناك حساب في الآخرة. وفيما يوجد جناح داخل الجماعة يتنصل من سيد قطب وأفكاره المتطرفة المرتبطة بالعنف نجد أن د. السعيد يقلب معنا في أوراق زينب الغزالي وفي مذكراتها بعنوان أيام من حياتي ليقرأ ما ذكرته بأن المرشد حسن الهضيبي قرأ كتاب معالم في الطريق وقال إن أمل الدعوة كله في سيد قطب.. وهذه الجزئية في تفسير د. السعيد تكشف استمرار فكرة العنف ومحاصرتها لعقول الإخوان مهما حاولوا التنصل منها, لكن هناك مطالب لابد من تحقيقها لكي يكون هناك حوار حقيقي بين المجتمع وبين الإخوان في مقدمتها أن تقوم الجماعة بإدانة كل أعمال العنف, وإدانة أفكار مثل التي تضمنها كتاب معالم في الطريق, وفي ظلال القرآن لسيد قطب والأعمال التي ارتكبها الجهاز السري, وإدانة فكرة وجود الجهاز السري من الأساس. لجنة الخمسة إلي ذلك فإن عضوا سابقا بالجماعة رفض ذكر اسمه قال: إن وقائع العنف التي ارتكبها النظام الخاص لا تتوقف فقط عند مقتل النقراشي أو الخازندار أو غيرهما ولكن تمتد أيضا لارتكاب جرائم عنف داخل الجماعة نفسها مثلما قيل عن مقتل عضو الاخوان سيد فايز, وهذا معناه أن النظام الخاص ألقي بظلال سيئة ليس فقط علي من يختلفون مع الإخوان بل مع اعضاء الإخوان أنفسهم, ومنذ الأربعينيات وحتي الآن لا يزال النظام الخاص يسيطر علي مقدرات الجماعة, وفي السبعينيات تم تشكيل لجنة سميت بلجنة الخمسة تضم أربعة من النظام الخاص وشخصا واحدا من اعضاء الجماعة اسمه اسماعيل الهضيبي الشقيق الأصغر لمأمون الهضيبي والذي خرج من اللجنة بعد أن عرف انه مجرد ديكور فقط, وكانت اللجنة تعمل بنظرية العنف المؤجل أي أنها تقرر ارتكاب العنف في الوقت الذي تراه مناسبا ويخدم مصالحها, كما أن نفوذ النظام الخاص استمر حتي الآن ولذلك فإن الاعتذار عن العنف يسحب الشرعية من تحت أقدام قيادات الجماعة الذين عملوا بهذا الجهاز الخاص, ولذا تظل كل هذه الأعمال مصدر فخر أمام شباب الإخوان كل يوم, وبالتالي فإن الاعتذار عنها معناه أنهم ارتكبوا خطأ, وهذا لا يتناسب مع المنهاج الذي سارت عليه الجماعة والثوابت التي نشأت عليها بأنها جماعة معصومة من الخطأ. انعدام الثقة إلي ذلك نجد أن الخبير الأمني اللواء فؤاد علام يطرح منذ عشر سنوات نفس السؤال: لماذا لا تعتذر الجماعة عن جرائم العنف وتعيد الثقة المفقودة بينها وبين النظام؟!.. لم يجبه أحد من القائمين علي شئون الجماعة لكنه يؤمن تماما بأن السبب الحقيقي هو أن الجماعة لا تعترف بأنها ارتكبت أخطاء لأنها تعيش علي فتاوي أصدرها قادة الإخوان واعتبروها الطريق الصحيح الذي لا يجب مخالفته, وهذا يعني أن الجماعة لن تتخلي حتي هذه اللحظة عن أفكار العنف, لأنها تسير علي نفس المنوال الذي قادها إلي الخطأ, هذا فضلا عن أن اللواء علام يؤكد أن التنظيم السري لا يزال قائما وموجودا ومن الممكن أن يستخدم العنف في أية لحظة, ويؤكد كلامه متسائلا: إذا لم يوجد التنظيم السري فمثلا أين تم تدريب طلبة الأزهر الذين ظهروا مدربين وقتاليين وملثمين؟!.. هذا نموذج يكفي لتأكيد أن التنظيم السري مازال موجودا. وفيما تظل علامات الاستفهام تشير إلي الثقة المفقودة دائما بين النظام والإخوان يؤكد اللواء علام أن الإخوان ليس لديها رؤية سياسية حقيقية, وأنه برحيل مرشدها عمر التلمساني لم يعد هناك عقل سياسي داخل الجماعة.