عادت مرة أخري نغمة الميزة النسبية التي حاول مصدرو الغذاء بثها في قناعات الدول النامية حفاظا عي أسواقهم الرائجة معنا وضمانا لأسري دائمين في سجون الفجوة الغذائية واستيراد الغذاء . ويطلبون قناعاتنا علي ما لا يدخل في قناعاتهم, لأنهم ينتجون شتي أنواع الأغذية ولم يتخصصوا أبدا فيما يجلب إليهم عوائد هذه الميزة النسبية المزعومة. فالصراع بين التجاريين والزراعيين حول مفهوم الأمن الغذائي سيظل مستعرا في ظل عدم فصل المستوردين بين صالحهم الشخصي والصالح العام وبين رواج تجارتهم وبين تحقيق أمن غذائي لشعب بأكمله. ففي ظل ركود اقتصادي عالمي دام لعامين وانخفضت معه تجارة تصدير الفاكهة والخضراوات بأكثر من60% لعدم وجود اعتمادات بنكية بالخارج مخصصة للسلع الكمالية فإن الاعتماد علي تصدير الكنتالوب والفراولة والفاصوليا لاستيراد الغذاء كان من الممكن أن يتسبب في تعميق الأزمة الاقتصادية ومأساة غذائية مصرية إذا ما استمع المجتمع لرأي التجاريين بشراء الغذاء من عائدات بيع الفاكهة وهو أيضا ما نعيشه داخليا من التحول إلي زراعة لب القزقزة والفول السوداني لأغراض التسالي بمساحات تجاوزت750 ألف فدان خلال الموسم الصيفي الحالي علي حساب زراعات الزيوت بفجوتها الغذائية الضخمة التي وصلت إلي90% أو الذرة الصفراء لوقف المزيد من وارداتها التي تجاوزت5.5 مليون طن سنويا يأتي من الخارج منزوع الجنين ومحملا بفطر الأفلاتوكسين السام في الفجوة الناتجة عن نزع هذا الجنين بما يضر بالصالح العام وبل وأدي أيضا إلي انهيار أسعار هذه السلع الكمالية للتسالي بعد إقبال الكثير علي زراعتها رضوخا لرأي التجاريين. فالأمن الغذائي هدف في حد ذاته يوضع في مقدمة الأهداف العالمية بل وعلي رأسها وقبل أي أمن آخر, خاصة في ظل زمن تغير المناخ ونقص انتاج الغذاء في العالم وزمن الطاقة الذي سيأخذ المزيد من فائض انتاج الغذاء في الدول المنتجة والمصدرة له لتأمين مستقبل وقودهم السائل علي حساب غذاء البشر الذين يستوردونه والذين لديهم قناعات بأن زراعة الكماليات أهم من زراعة الأساسيات وبأنهم لا يقتنعون بمسمي سلع استراتيجية مادامت السوق العالمية تعج بفائض غير مأمون من هذه السلع, كما أنهم لا يدركون مغبة الاعتماد علي الغير ووضع أقدارنا في أيادي الآخرين. هؤلاء التجاريون هم أيضا الذين يتزعمون تقليص زراعات مساحات الأرز في الدلتا بحثا عن عائد للمتر المكعب من المياه يصل إلي50 جنيها في المشروعات السياحية والصناعية بدلا من العائد المنخفض من الزراعة عموما ومن زراعات الأرز علي وجه الخصوص وليذهب أمننا الغذائي وليذهب معه الفقراء وأراضي الدلتا والرقعة الزراعية المصرية إلي حيث ألقت وإلي البحر المتوسط. فالذي لا يعلمه البعض عن انتاج الغذاء انه سلعة غير مرنة جزئيا وأن العودة إلي انتاجه تفاديا لكوارث طبيعية أو سعرية يستغرق ما بين عام إلي عام ونصف يكون خلالها الجوع والعوز قد عصف بشعوب بأكملها, فعلي سبيل المثال فحدوث ارتفاعات كبيرة في أسعار القمح خلال شهر يناير يعني للمصريين أن ينتظروا حتي شهر نوفمبر التالي لزراعة القمح ويحصدوا هذه الزراعة في يونيه من العام التالي ليبدأ توافر القمح في الأسواق المحلية وهي مدة تصل إلي عام ونصف العام, أما إذا كنا محظوظين كما هو الحال في الأزمة الحالية وحدثت الارتفاعات السعرية في شهر يوليه فإن الزراعة في نوفمبر ثم الحصاد في يونيه يعني الاستمرار لمدة عام بدون قمح في ظل استراتيجيات للمخزون الاستراتيجي الداخلي من القمح تتراوح بين90 120 يوما تحسب علي كون ثلثها فقط في الداخل وثلثها الثاني قادم في عرض البحر وثلثها الأخير تعاقدات علي الورق بما يعني أنه ما هو مضمون فعليا من هذه السلعة المهمة داخل الأراضي المصرية لا يتجاوز50 يوما وإلا لما هرعنا إلي عقد صفقات عاجلة بلغت250 ألف طن مع فرنسا في ذروة الارتفاعات السعرية وبما تسبب في المزيد من الارتفاعات في الأسعار نتيجة لهذا الهلع غير المبرر في التعاقد ما دامت احتياطاتنا مؤمنة لأكثر من أربعة أشهر. إذا كان الأمر الغذائي هو هموم للزراعيين فقط فأنا أتوجه بالسؤال إلي التجاريين والاقتصاديين بأنه ما دام الأمر كذلك فلماذا تلجأ الآن الدول العربية البترولية إلي دول الوفرة الزراعية في أفريقيا وآسيا لشراء واستئجار أكثر من6 ملايين فدان لزراعة حاصلات الغذاء, ولماذا تستثمر أكثر من25 دولة كبري في الزراعة في هذه الدول, ولماذا تستأجر وتمتلك إسرائيل بعدد سكانها الذي لا يزيد علي6 ملايين نسمة أكثر من4 ملايين فدان للاستثمار الزراعي وانتاج الغذاء في شتي دول العالم بل ولماذا تدرس مصر الاستثمار الزراعي وانتاج الغذاء في دول حوض النيل والدول الإفريقية ذات الوفرة الزراعية ما دامت التجارة والاقتصاديات تأتي دائما قبل الأمن الغذائي!! وإذا ألغت روسيا ثم أمريكا التي تمد وحدها الأسواق العالمية بنحو28% من الغذاء ثم استراليا وفرنسا صفقات مستقبلية لتصدير القمح في ظل كوارث مناخية متوقعة فماذا تفيد أموالنا حينذاك؟! وهل تنقذ محاصيل الفراولة والكنتالوب واللب والسوداني الفقراء وتصنع لهم رغيف الخبز من هذه المواد البديلة؟!! وبالمثل أيضا ما دام العائد من المتر المكعب فقط من المياه هو الذي يحكم اقتصاديات العالم فلماذا لم تتحول الدول الكبري إلي الصناعة والسياحة فقط تاركة الزراعة للفقراء ولاقتصاديات التخلف؟! الاجابة لأنهم أعقل من أن يفعلوا ذلك ولأنهم يؤمنون إلي الحد المطلق بأن الأمن الغذائي لا يدخل في مقارنات مع شيء آخر ولأنهم يحترفون جيدا ويعلمون تماما كيف يرفعون أسعار الغذاء وقتما يريدون سواء بتقليص مساحات زراعات الحاصلات المهمة أو ترك الأمر للمناخ ومضاربات البورصة لتساعدهم في ذلك. الغذاء في مصر استقرار مجتمعي والقمح علي وجه الخصوص يرقي إلي مستوي الأمن القومي.