في المناطق الصحراوية, مثلنا في مصر, تصبح المياه كالأموال وأكثر, فمن المياه كل شيء حي كما جاء في محكم القرآن الكريم. ونتيجة لموقعنا الجغرافي وتاريخنا الجيولوجي أصبح لدينا نوعان من بنوك المياه, وربما في مستقبل جد قريب يمكن أن يضاف الينا بنك ثالث اذا أصبنا في علاقاتنا بدول حوض النيل. هذه البنوك هي: 1 بنك النيل في وضعه الحالي. 2 بنك المياه الباطنية في الصحراء الغربية 3 بنك النيل باتفاقات جديدة مع دول المنابع الاثيوبية والاستوائية. لكل من هذه البنوك مواصفات موجزها نستمده من مصطلحات بنوك الأموال. فالبنك النيلي في حالتيه الحالية والمستقبلية هو رصيد حساب جار يتجدد سنويا حسب جمع من الظروف المناخية في أعالي النيل وما يصل من مياهه الي مصر. ويعتمد سحبنا من الرصيد المائي علي طريقة استخدامنا الرشيدة أو المرشدة للمياه بحيث تظل العلاقة بين السحب والايداع علاقة متوازنة أو شبيهة ذلك علي مر السنين. أما بنك المياه الباطنية فهو أقرب الي نظام الودائع,بحيث نصرف منه قدرا لا يخل بالوديعة إلا لماما وفي بعض العهود. وقد كان ذلك سمة الحياة في الواحات علي مر آلاف السنين لكننا فقدنا جزءا من تلك الوديعة في تجارب عدة مثل تجربة الستيينات من القرن الماضي في واحة الخارجة, ونفقد حاليا أجزاء أخري من الوديعة في الفرافرة والداخلة وسيوة وعلي طول الطرق الصحراوية غرب الوادي وبخاصة منتجعات طريق القاهرةالاسكندرية الصحراوي. المياه الباطنية هي نتاج عصور متتابعة من الأمطار والجفاف استغرقت المليون سنة الأخيرة, وربما كان آخرها من أمطار محدودة في الفترة بين الألف السابعة والخامسة قبل الآن نتيجة تحرك نطاق المطر الصيفي السوداني شمالا وإنسحابه بعد ذلك جنوبا مخلفا صحاري مصر الغربية والشرقية وصحاري السودان الشمالية, ومن الصعب الاجابة علي السؤال الدائم: هل هناك إعادة تغذية للخزان الجوفي؟ ربما يكون ذلك اذا دخلنا عصرا مناخيا أكثر رطوبة في مستقبل هو بعمر الانسان بعيد. والواضح حتي الآن أننا نمر, بل نستغرق ونتعمق في عصر جفاف شديد الفحولة منذ نحو خمسة آلاف سنة. وبرغم بعض مؤشرات فاروق الباز من قراءات لصور فضائية ومغناطيسية حول وجود آثار لأودية نهرية واسعة تحت عشرات أو مئات الأمتار من الرمال تسير في محاور من الشمال الشرقي للجنوب الغربي قرب الحدود المصرية السودانية فإن ذلك يعوزه الدليل بتكلفة حفر عالية لواحد من تلك المسارات ومدي ما يحمله من مياه في مسام صخوره, ويجيب علي التساؤل أنه اذا كان مساره كذلك فإن النتيجة أنه يحمل المياه الباطنية في اتجاه السودان وتشاد. وجود المسارات النهرية والبحيرات في الصحراء الغربية خلال عصور مطيرة أمر مقبول جيولوجيا ومورفولوجيا وأدلته كثيرة في الصحراء المصرية فماذا يقال من آراء نحو مخزون المياه الجوفية في مصر؟ أغلب الآراء أنه لا توجد أية تغذية بالحجم الذي يوازي ما نضخه من المخزون المائي في مشروعات الاستزراع الحالية والمخططة مستقبليا. ومن ثم فإن المخزون قد يكفي عقودا قليلة اذا كان الضخ جائرا, وعقودا أطول اذا رشدنا ضخ المياه ورشدنا استهلاكها بمحاصيل غير نهمة للمياه. وعكس ذلك يري المتفائلون وهم قلة وأغلبهم يتكلمون بمنطق سياسي اننا نعوم علي بحر من المياه الجوفية. ولكن الأغلب ان الماء الباطني في الصحراء يتخذ شكل جيوب غزيرة وجيوب أقل غزارة, مثلها في ذلك مثل جيوب حقول البترول الوفيرة والفقيرة. وأن هذه الجيوب قد لا تتصل بعضها البعض الا في النادر, كأنها بحيرات منفصلة أو شبه منفصلة, فإذا كانت مياه واحة الفرافرة الآن وفيرة فإنها ستصبح ناضبة اذا استمرأنا الضخ الجائر عقدين أو أكثر. جربت السعودية تخضير الصحراء في الثمانينيات الماضية وصرفت مليارات علي شركات انجليزية وخبراء وآلات ومواسير وآلاف الفلاحين معظمهم مصريون وملايين أخري تشجيعا للمواطنين السعوديين علي ان يزرعوا وضمانات ان تشتري محصولاتهم من القمح بأسعار هي أعلي من سعر قمح مستورد حتي مواني الدولة. باعت الشركات الانجليزية كل الخبرات والتجهيزات والآلات وعادت الي بلادها بمغانم ضخمة. وكلفت الدولة كثيرا في إعانات المنتجين, وأغلقت كثيرا من المزارع وعاد الفلاحون بالنذر اليسير أو يجرون اذيال الخيبة. هل نضبت المياه الجوفية أم أن تكلفة المشروعات كانت في مجموعها أقل بكثير من جدوي أفكار التخضير؟ ماذا يفعل رأس المال البترولي؟ تحول الآن الي بلاد أخري يفتش عن أرض يتملكها في بلاد تعاني الفقر والجوع وكل الآفات الاجتماعية الاقتصادية في بلاد افريقية عدة, منها السودان ومصر. تشتري أراضي أو محصول اعلاف كالبرسيم, فكأنها تحصل علي المياه الجوفية والعمالة المحلية بأدني الاسعار لاطعام مواشيها وإنتاج ألبانها وتسويق منتجاتها المختلفة حتي داخل مصر!! أما عن رصيدنا الدائم من مياه النيل فإنه قد يظل ثابتا أو يتناقص قليلا بحكم رغبات دول المنابع وبخاصة اثيوبيا في التوسع في استخدام المياه للاستزراع وإنتاج الطاقة معا. وهي أمور مشروعة وبخاصة مع ذبذبة الامطار في شمال اثيوبيا والجوع القاتل الذي يلاصق سكانها. فإذا كانت تغيرات المناخ العالمي ستصيب اثيوبيا بالمزيد من حالات الجفاف فإن ذلك يترتب عليه مشروعات أخري غالبا ستكون موجعة بالنسبة لمصر والسودان بالترتيب أي ان مصر تتضرر أكثر من السودان بحكم الجغرافيا. ولكي نكون علي استعداد لمواجهة مثل هذه المخاطر فعلينا ما يلي: 1 ان نكف عن الكثير من الاقوال التي تدعي وجود مؤثرات أجنبية وإسرائيلية بالذات تحرض دول المنابع لحصار مصر مائيا. ربما تعرض اسرائيل بعض الخبرة مثلها مثل خبرات أمريكية أو مصرية في شئون المياه. والرد الحاسم في هذا الموضوع هو المزيد من عرض الخبرة المصرية بشكل موضوعي في دول المنابع. 2 نشرت مؤخرا ابحاث عن امتداد الاراضي المصرية أيام الخديو اسماعيل الي أوغندا وبعض اثيوبيا وبخاصة اقليم هرر. هذا تاريخ قد يلمح لدول المنابع الي فترة زمنية يكرهونها أو اتفاقات قدم عليها الزمان ولم تعد صالحة, وليس لنا مصلحة في استدعاء ما قد يجعل دول المنابع فقط الي مصر متشككة في أغراضها وادعاءاتها أو موضوعيتها فيما نقدمه في مشروعات اتفاق. مثلا هل تعاود النمسا الحالية نظرتها السابقة كامبراطورية تمتلك التشيك والسلوفاك والمجر وكرواتيا وترانسلفانيا( رومانيا) وتحكمها السابق في مائية نهر الدانوب؟ التاريخ تاريخ والأحسن منه اتفاق علي أوضاع ترضي الجميع. لقد فقدنا امبراطوريتنا منذ مائة وعشر سنوات, فماذا يجدي استدعاؤها الآن في ظل جو مكهرب بين مصر ودول المنابع بل ومع السودان الذي كان فترات طويلة يري انه قد اصابه الغبن في تقسيم حصيلة مياه النيل!! 3 في ظل كل الاحتمالات نرجو ان نكف عن انشاء مشروعات زراعية جديدة, وأن نطور أراضينا الحالية قديمة وحديثة, ليس فقط بزراعة محاصيل غير نهمة للمياه الا في أماكن معينة, بل في تغيير أسلوبنا الاقتصادي الي الصناعة والخدمات, فهي أقل احتياجا للمياه في الزراعة, وهي في نفس الوقت أكبر مردودا من الزراعة. ليس المعني إهمال الزراعة ولكن تحسين ادائها وتوجيها لفترة ما لانتاج غذاء مباشر للسوق المحلية توفيرا للاستيراد الغذائي وتمكينا لمصر ان تقف مستقلة دون الاعتماد علي ما يفرضه علينا الغير حين يقدم الغذاء الأساسي ومعه شروط أخري اجتماعية وسياسية معا. 4 وأخيرا ان يكون موضوع المياه دستور أو شريعة أو قانون يحدد المفهوم الاطاري في استخدام المياه لكل المصريين, وخاصة المسئولين وأي خروج عليه يصبح خيانة ضد كل شعب مصر كأنه جريمة قتل أو ابادة أو تحجيم أو تشتيت بإفقار وإذعان!