وسط اهتماماته الجافة, وجد نصار عبدالله, منذ أول ديوان له.. الهجرة من الجهات الأربع1970, منطقة حارة يقبض عليها, منطقة محرزة باسم الشعر. لم تتوار في غابته الممتدة بين الاقتصاد, القانون والفلسفة, رقعة الظل, أعني القصيدة, بل كبرت وصارت ظل شجرة. من بعيد تستطيع أن تلمس صوته.. حريفا, يقطر سخرية حتي من نفسه. قصيدة نصار موصولة بعروق ممتدة في تربة الأسلاف, فمازالت مصر تقيس الزمن وتقاومه بالضحك والبكاء في نفس واحد! في دواوينه.. قلبي طفل ضال, الجرح الذي أصبح سيفا, أحزان الأزمنة الأولي وغيرها يخرج عليك بابتسامة لاذعة. يسخر منك شعر نصار, لكنه لا يجرحك. هو يعلمك البقاء حيا ومستفهما, يدفعك إلي الحافة لتفكر في الهاوية التي تنتظرك, ما لم تكن علي أهبة اليقظة. بالنسبة لنصار أن تعرف نفسك هو أن تعرف العالم. وقد داعبته, بمناسبة فوزه مؤخرا بجائزة الدولة التقديرية في الآداب, قلت: أظن أنك من قلة جاءتها الجوائز في الوقت المناسب, فما زلت حيا ترزق, كما أنك لم تطعن بعد في السن, فضحك, بخبث, وقال: أنا أيضا أظن ذلك, ثم تمددت بيننا الأسئلة.. قل لي.. ما الحد الفاصل, في شعرك, بين السخرية والانتهاك السخرية تستهدف الدفاع عن العدل وترسيخه, وعندما يبدو للبعض أنها تنطوي علي انتهاك ما, فهو موجه لأولئك الذين ينتهكون الناموس ويضعون أنفسهم أو الأشياء في غير موضعها, أما الانتهاك الذي هو نهش للحق والعدل والجمال, فلا أظنه موجودا عندي. يبدو لي أن العالم قد استغني عن الشاعر بالسياسي والمنظر الذي يقدم للسياسي ما يتطلبه عمله من مبررات! إذا فهمنا الشعر علي انه محاولة تستهدف اعادة خلق العالم ذاته ليصبح اكثر جمالا ومعقولية, فإنه لا السياسي ولا المفكر بوسعه أن يستغني عن الشاعر. تذكر أن الزعماء التاريخيين كانت لديهم رؤي شعرية بمعني ما, بل إن بعضهم كانوا شعراء.. ماوتسي تونج مثلا أو ليوبولد سنغور. الرؤية الشعرية هي وحدها التي تحرك الجماهير وليس التحليلات العلمية أو التنظيرات الفكرية المجردة, وأهم من ذلك أنها تستطيع أن تقدم الجوهر الروحي والمضمون الإنساني النابض لأية نظرية سياسية وهو ما يعجز عنه التحليل العقلي المجرد. لم تشغلك فكرة التجريب الشكلاني, لماذا؟ جوهر الشعر لا يمكن أن يكون شكلا خاليا من أي مضمون معرفي. إنه مضمون معرفي وجداني يتم انتاجه من خلال أدوات خاصة, والمضمون المعرفي الخاص ينتج شكله الخاص. التجريب لمجرد انتاج شكل جديد لا ينبغي أن يكون هدفا في حد ذاته.. وشعرت أن نصار قد وجد الإجابة التي يبحث عنها, إذ تنهد وأكمل بارتياح.. التجريب بهذا الشكل خدعة. فيما كان كثيرون من أبناء جيلك مشغولين بالبحث عن آباء, كنت تقف يتيما. لقد صرت بدورك أبا, وموشحا للتجاوز من أهم أبناؤك؟. أظن أن لي أبناء كثيرين, أتمني أن ينجحوا في تجاوزي, وأعتقد أنهم سوف ينجحون, لا أحب أن أذكر أسماء, فشهادتي في هذا الشأن مجروحة. كنت, ومازلت, بعيدا عن القاهرة وزحامها المجنون, مع ذلك, تخطي صوتك حدود مصر. فهل الشعر نقيض مزمن للجغرافيا. ليس الشعر وحده هو الذي ينقض الجغرافيا, هناك وسائل الإعلام. كنت أقيم في القاهرة في الستينيات, لكنني كنت أنشر قصائدي في مجلة الآداب البيروتية, ومن خلالها عرفتني القاهرة!! مازلت إلي الآن أشعر أني مدين للآداب, فلولاها ربما لم يكن قد عرفني أحد, ثم بعد أن تركت القاهرة وأقمت في سوهاج كانت هناك وسيلة أخري للتواصل قد بدأت تشيع, أعني الفاكس, ثم بعد ذلك الانترنت الذي يربطني الآن بالعالم. لغتك الشعرية, لبساطتها, تبدو, أحيانا, منفكة من أسر البلاغة. أين تكمن بلاغتك. أظن أن الانفكاك من أسر البلاغة نوع من البلاغة, أظن أيضا أن هناك نوعا معينا من الايقاع فيما أكتب له, رغم بساطته الظاهرة, قدرة ما علي الصدم. ألم يكن لاهتماماتك المتعددة( الجافة) أثر جانبي علي القصيدة. أعتقد أن الانشغال بغير الشعر خيانة له. عندما تمتلك سلاح الطيران هل تكون خائنا للمدفعية؟؟ وعندما تنقب في الأعماق هل تكون خائنا للسطح؟ استكشاف العالم معركة ينبغي أن تخوضها بكل الأسلحة, وعندما تستطيع أن تقيم التناغم بينها فلا يمكن لبعضها ان يخون البعض, في العالم جوانب يستكشفها العلم وأخري تستكشفها الفلسفة, وجوانب ثالثة لا يقدر علي استكشافها غير الشعر, وكل هذه الأسلحة أو الأدوات يتغذي بما يقدمه له الآخر ويغذيه في نفس الوقت. إن الاهتمامات, الجافة فيما تقول, كانت في أسوأ الفروض وقودا للنار المقدسة. تصل افكارك إلي الكبار عبر الصغار. أنت تعول علي الآتي, بدلا من الماضي. تهرب إلي المستقبل بالأمثولة. دائما أقول لنفسي: لعل الذين شاخوا مازال فيهم شيء ما لم يشخ بعد! وفي أعمالي الأخيرة وبوجه خاص قصائد للصغار والكبار أخاطب ذلك الشيء. لا يبدو لي أنك مشغول بالمؤسسة, بضبط المسافة بينك وبينها. أظن أن هذا صحيح, حتي الآن علي الأقل, وأتمني أن أظل غير معني بضبط المسافة.