علي غير عادة ضباط الجوازات في المطارات عدم التحدث مع المسافرين, فقد سألني ضابط الجوازات في مطار بيروت الدولي, حين رأي وظيفتي بجريدة الأهرام, عن حقيقة استشهاد الجندي المصري علي الحدود مع غزة, وهل فعلا ان الرصاصة القاتلة جاءت من القطاع واحد افراد حماس, أم أنها رصاصة اطلقها طرف مأجور اراد زيادة التوتر بين مصر وغزة؟ كان السؤال مفاجئا لي من زاويتين, الأولي ان متابعة الشأن المصري خارجيا وداخليا لاتعد في نظر الكثير من الاشقاء العرب شأنا يخص مصر وحدها, بل هو أيضا يخصهم ويدفعهم دائما للمتابعة والتحليل والنقد وإثارة الاسئلة وانتظار الجواب المقنع. والثانية أن السؤال يحمل تشكيكا مبطنا, أو علي الأقل عدم اقتناع بالرواية المصرية الخاصة باستشهاد الجندي المصري, ويطرح تصورا ضمنيا بأن هناك من يريد ان يزيد الوضع تأزما بين مصر وحركة حماس التي تسيطر علي القطاع فعليا وتقوم بدور حكومة أمر واقع إلي أن تتغير الظروف وتعود الأمور إلي طبيعتها, وبالتالي فإن حماس ليست مسئولة ويجب عدم التشدد معها. حالة ضابط الجوازات ليست فريدة من نوعها فهي متكررة, في كل مكان تثار فيه قضية عربية يكون التساؤل المنطقي هو ما الذي فعلته مصر وماذا يمكن ان تفعله؟ وفي بعض الاحيان يتطوع كثيرون بتقديم اجابة تنفي أي فعل لمصر, ويتبعها نوع من الترحم علي الأيام الخوالي حين كانت القاهرة تقود الأمة العربية وتحدد الأولويات وخطط العمل والبدائل وتأخذ القرار الذي يرضي طموح العرب ويرضي غرورهم. لقد بات النقد لمصر وسياساتها من قبيل تحصيل الحاصل الآن في كل مكان, وما توجد ندوة أو مؤتمر أو تجمع ثقافي عربي أو فكري, ناهيك عن برامج الفضائيات الزاعقة والمهيجة للمشاعر, يعالج ويناقش أمرا يخص العرب جميعا في شأن ثقافي أو فكري أو علمي أو سياسي إلا ويصب الجميع المسئولية علي رأس القاهرة, في الجانب الايجابي في مثل هذه الاطروحات الناقدة غالبا هو اعتراف ضمني بأن العالم العربي لايستطيع ان يقلب الموازين ويحقق الطموحات العربية دون دور قيادي من مصر. أما الجانب السلبي فهو تحميل مصر وحدها مسئولية التردي العربي وتصوير الأطراف الأخري ذات الصلة بالموضوع وكأنها مغلوبة علي أمرها ولايمكن مطالبتها بأي دور لمصلحة العرب لأنها بيساطة ليست طرفا قائدا كما هو الحال بالنسبة للقاهرة. كانت مناسبة السفر إلي لبنان هي المشاركة في ورشة عمل عن مستقبل القضية الفلسطينية في العام الجديد في ضوء خبرة عام2009, الجهة المنظمة للندوة هي مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ومقره في بيروت, وهو مركز يهتم بالقضية الفلسطينية ويعالجها من جميع الجوانب, ويصدر سنويا تقريرا استراتيجيا عن القضية الفلسطينية منذ عدة سنوات, بات يشكل مرجعا مهما واساسيا لكل من يريد أن يتابع المصير الفلسطيني. كان السؤال المركزي في ورشة العمل يتعلق بالتصورات المحتملة وبالادوار التي يمكن ان تلعبها اطراف ذات صلة بالمسار الفلسطيني, سواء اطرافا عربية أو إقليمية أو دولية. وقد تناولت المداخلات التي قدمها باحثون وأكاديميون ومن هم علي صلة وثيقة بالفصائل الفلسطينية المختلفة أو بالسلطة وبحركة فتح تحديدا, وبالتحليل والنقد والتخيل والترجيح, امورا شتي لفت نظري من بينها خمسة أمور: أولا: الاتفاق علي أن القضية الفلسطينية الآن هي في أسوأ حالاتها, ومرشحة إلي أن تتعرض لمزيد من الانتكاسات الخطيرة إذا ظل الوضع علي ما هو عليه من انقسام فلسطيني وتراجع في العملية السياسية, وفي تغييب برنامج سياسي مبدع يمزج بين العمل السياسي وبحق المقاومة في آن واحد. ثانيا: إن التشاؤم هو سيد الموقف بين جميع الفصائل الفلسطينية. وبالرغم من أن القريبين من حركة حماس كانوا يتحدثون عن الصمود والمقاومة والانتصار في وجه العدو, إلا أنهم لم يقدموا بديلا آخر للوضع الراهن, وبدوا أكثر تشبثا به من أي وقت آخر, وفي الوقت ذاته بدوا كمن ينتظر حربا جديدة أو عدوانا جديدا سوف تقدم عليه إسرائيل في غضون العام الراهن. أما القريبون من حركة فتح فكانت دعوتهم محددة وهي أنه لابديل سوي المصالحة وترتيب البيت الفلسطيني من داخله, لان الاستحقاقات كبيرة ولايمكن لأي طرف بمفرده أن يتحمل تبعاتها. ثالثا: إن ثمة صدمة من التراجع الأمريكي وتراجع إدارة أوباما علي وجه التحديد عن القيام بأي دور فعلي يقود إلي حلحلة في الوضع الراهن الذي يمكن اختصاره في كلمة واحدة وهي الجمود المنذر بالانفجار. وجاءت التصريحات التي اطلقتها هيلاري كلينتون بعد زيارة وزيري الخارجية المصري والأردني لواشنطن في يوم عقد ورشة العمل بأن بلادها تفضل المفاوضات بلا شروط مسبقة, وكأنها رسالة للمجتمعين بألاينتظروا شيئا جديدا من واشنطن لاترضي عنه إسرائيل. رابعا: ان إسرائيل في وضعها الراهن الذي يسيطر عليه اليمين فكريا والمستوطنون بإيديولوجيتهم القائمة علي تهويد كل ما يمكن تهويده وطرد الفلسطينيين من أرضهم ليست مستعدة لأي استحقاق للتسوية السلمية في الأفق المنظور. خامسا: أن ثمة تساؤلات عن الآثار التي يمكن أن تحدث في غزة بعد الاجراءات المصرية لضبط حركة الحدود, وكان مثيرا أن يشير احد المتابعين بدقة لما يجري في غزة إلي أن الوضع القائم في القطاع حاليا ترتبت عليه بنية اجتماعية وسياسية لاترضي عن المصالحة أو العودة مرة أخري إلي احضان السلطة الوطنية الفلسطينية, وتجنح إلي إبقاء الوضع علي ما هو عليه نظرا لما يجلبه لها من مكاسب عديدة. كانت المناقشات ثرية طالت أيضا الدور المصري فلسطينيا وعربيا, وبعض المداخلات لم تكن تحمل سوي مقولات عامة وليست لديها المعلومات الكافية عن التحركات المصرية لا في السودان أو اليمن أو العراق أو مع تركيا, ناهيك بالطبع عن ترديد الانتقادات ذاتها التي تقال في فضائيات بعينها علي خلفية المواجهات التي جرت في غزة بشأن قافلة شريان الحياة3 وبالرغم من طرحي للمعلومات الصحيحة في هذه النطاقات فإن النقد للمواقف المصرية لم يتوقف. جزء كبير من النقد الذي يوجه لمصر الآن ليس بسبب الأوضاع المتردية في غزة, ولا بسبب تعثر المصالحة ولا بسبب جمود المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل, وإنما بسبب تصورات معينة في أذهان قائليها تنطلق اساسا من أن علي مصر أن تقوم بالمسئولية كلها تماما, كما كانت تفعل في الخسمينيات والستينيات في القرن الماضي, والجزء الثاني راجع إلي غياب المعلومات الموثقة عما تفعله مصر بالفعل في العديد من القضايا العربية, والجزء الثالث راجع إلي موقف مسبق أخذ علي نفسه تشويه أي خطوة أو اقتراح أو جهد تقوم به مصر, وتصويره باعتباره تنفيذا لتعليمات أمريكية وصهيونية ولخدمة الاعداء في مواجهة الاشقاء. الأمر الخطير هنا هو أن مثل هذا النقد الصاخب لم يعد تعبيرا عن خلاف سياسي أو فكري ينطلق من تصور لمصلحة عربية عليا يجتمع حولها العرب, بل تطور إلي حد تشويه المصريين أنفسهم, وايذائهم معنويا وإنسانيا. في جزء من هذا تصرف عفوي وجزء آخر يبدو مخططا وذا منهج تلتزم به مؤسسات إعلامية وبحثية وسياسية. وبحيث بات المصري الآن متهما بكل شيء أيا كانت قامته العلمية والفكرية, وأيا كان موقفه مما يجري في الداخل, وفي أقل الأمور في وضع دفاعي عن نفسه وعن بلده والويل له إن لم يكن متسلحا بالمعلومات والتفسيرات المناسبة والمقنعة. ثمة تفسير هنا يجنح إلي القول بأن القدرة الإعلامية المصرية وهي من أسس القوة الناعمة لأي بلد الآن لم تعد قادرة علي مواجهة هذا المد القادم من الخارج والمحمل بكل نقد وإساءة والقصد طبعا يتعلق بالإعلام العامل تحت مظلة الحكومة, أما ما هو خارج عن هذه المظلة من إعلام خاص وإعلام حزبي فهو اساسا إحدي قنوات الترويج لنقد الحكومة والنظام والبلد بأسره, وبحيث أصبح من حجة الناقدين لمصر أن ما يقولونه ليس سوي ما تردده صحف مصرية تصدر في الداخل وليس في الخارج. وليس مطلوبا هنا تكميم الأفواه أو الحد من الحرية المتاحة في مصر, وإنما المطلوب هو البحث في معالجة التردي الإعلامي من جانب, ومعالجة القصور في اداء الوزارات المعنية بالتخاطب مع الرأي العام الخارجي من جانب آخر, فالثابت أن مصر تفعل الكثير وفي أكثر من اتجاه, ولكن لا احد يعلم عن ذلك شيئا, وقطعا فإن المطلوب هو استراتيجية إعلامية فعالة وناجزة علي أن توفر لها الموارد المادية والبشرية المناسبة وأن تتعامل مع الوقائع والاحداث بأعلي درجة من المهنية والاحتراف وبغير ذلك ستظل صورة مصر معرضة للكثير من التشويه وسوء الفهم.