الأقصر.. نعم نستطيع! صاحب النفوذ والتربيطات هزمه القانون والعمل ب شفافية! الطريق من قنا إلي الأقصر لايزيد علي60 كيلو مترا, مسافة سعيدة بالرغم من انتشار كمائن مرورية متعرجة تبدو مزعجة, فالخضرة فيها ممتدة دون تشوهات عشوائية مثل تلك التي أفسدت ريف الدلتا! مدخل الأقصر نفسه بسيط وجميل, زهور وألوان ونظافة, قد تختفي الزهور من الشوارع لكن النظافة تظل عنوانا دائما ياتري هل ستظل المدينة علي هذا الحال بعدما تحولت إلي محافظة وتوسعت وضمت إليها أرمنت وإسنا وعشرات القري الجديدة بكل مشكلاتها؟! طرحت السؤال علي الدكتور سمير فرج محافظ الأقصر. أجاب بثقة: بالطبع لن تظل علي حالها, فالتطور لن يتوقف, خاصة بعد أن أضيف لها ظهير صحراوي واسع يمكن أن يستغل في التنمية ورفع مستوي معيشة الناس! قلت: لكن التركيز علي المدينة نقلها نقلة حضارية, خدمات ونظافة واستثمار وسمعة, لكن مع وجود إسنا وأرمنت قد يقل الاهتمام ويتقلص التمويل فتعود ريما إلي عادتها القديمة؟ أجاب: هذا لن يحدث مطلقا فالمدينة لها مخططها.. والناس مهتمة باستكماله: شعبيين ومواطنين ومسئولين, الأقصر أصبحت حالة لايمكن التراجع عنها, وبالنسبة للادارة عينت نائبا للمحافظ مسئولا مسئولية كاملة عن أرمنت وأسنا, وفق تخطيط تنموي يجري رسمه الآن. كلام الدكتور سمير فرج قد يطمئننا علي المدينة, وأنها ستمضي في مسيرة التحضر التي سارت فيها.. لكن حال الأقصر وجمالها يجبرنا علي التوقف والتفكير فيها, ربما تفسر لنا تجربتها أحوالا كثيرة لاتعجبنا, ومن الطبيعي أن نبدأ بأسئلة خبيثة منطقية: إذا كان هناك جمال ونظافة وتنمية يشعر بها الناس.. إذن لماذا كل هذا القبح في القاهرة والجيزة وبني سويف والزقازيق وشبين الكوم وطنطا وكفر الشيخ وغيرها من المدن البعيدة؟! ألسنا نفس الناس.. ونفس الحكومة ونفس الموارد والإمكانات؟! أين يكمن الخلل بالضبط؟! الإجابة عن هذه الأسئلة الخبيثة لاتنفصل عن حكاية مدينة الأقصر.. لكن الحكاية نفسها تفضي إلي سؤال عام أكثر أهمية: هل هذه التجربة قابلة للاستنساخ, فنستطيع أن نغير حياتنا إلي الأفضل؟! لاتتعجلوا في الإجابة قبل أن نعرف الحكاية: الأقصر حين عين لها الدكتور سمير فرج رئيسا في عام2004, لم تكن تختلف عن أي مدينة مصرية أخري, بالرغم من كونها أهم مزار أثري علي كوكب الأرض, فالحال المائل ضارب في كل الاتجاهات, عشوائيات في المباني والشوارع والأسواق, قمامة تتناثر هنا وهناك, آثار مهملة أو مطموسة بين البيوت أو مدفونة تحت المباني.. نشع.. مياه.. بطالة.. الخ وسمير فرج نفسه لم يكن راضيا عن قرار تعيينه حين أبلغه به وزير الثقافة فاروق حسني, فالترقيات أحيانا قد تكون شلوتا لأعلي وحاول التملص والاعتذار.. لكن شخصية ذات ثقل كبير, قالت له: الرئيس اختارك وعيب أن تتراجع. حلف الدكتور سمير اليمين الدستورية صباح الأربعاء الخامس والعشرين من يوليو2004, وبعده شد الرحال جنوبا إلي المدينة التي قبلها علي مضض تاركا خلفه دار الأوبرا التي كان مديرها.. لم يسرع في إثبات نفسه بقرارات كبيرة, وانما راح يجمع معلومات ويذاكر ويدرس أربعة أشهر كاملة, مع خبراء ومساعدين ومستشارين جلب أغلبهم من القوات المسلحة, وأنتهي الي خطة تنمية شاملة حتي عام2030: سياحيا, وثقافيا, واجتماعيا, واقتصاديا وكانت هذه الرؤية المبنية علي التفكير العلمي المنظم هي أول خطوة في رحلة الالف ميل, والتفكير العلمي المنظم هو طوق النجاة الذي لانستخدمه ونفتقده في حياتنا, فنحن دائما نطارد تفاصيل أزمتنا ومشاكلنا, لدينا أزمة مرور فنحفر نفقا أو نبني كوبري أو نغلق ميدانا, دون أن نضع تصورا مكتملا عن علاج شامل للأزمة بكل مفرادتها: سعة الشوارع, عدد السيارات واحتمالات زيادتها, وسرعة تدفقها دخولا إلي المدينة أو خروجا منها وهكذا, لدينا أزمة دقيق فلنستورد بأسرع وقت عشرات الأطنان من القمح, دون استراتيجية قاطعة تجنبنا الوقوع في نفس الازمة مهما كان مستوي الإنتاج العالمي, لدينا أزمة مدارس فلنبحث عن قطعة أرض فضاء نقيم عليها مدرسة, ولانفكر في التعليم ككل: ماذا نريد منه في الخمسين سنة القادمة: مدارس ومدرسين ومعامل ومناهج وخريجين! باختصار.. نحن نعيش حياتنا بطريقة الصنيعية يوم بيوم في الصحة والقضاء والتأمينات والإسكان والنقل والإعلام والتشغيل والتدريب والقيادات والإصلاح السياسي.. وسياسات اليوم بيوم مثل الكذب بلا رجلين, تنكشف بسرعة وتبدو حولها عاجزة عن ملاحقة المستقبل.. فنظل نطارد مشكلاتنا في لعبة جهنمية بلا توقف, فلا نعرف هل نحن الذين ندور في ساقية هذه الازمات أم هي التي تدور معنا من باب العشرة الطويلة والصبر علي المكاره! لكن في الأقصر طرح سمير فرج السؤال الصحيح: ماذا نريد من هذه المدينة بعد25 سنة من الآن؟! وضع التصورات.. ثم راح يعمل علي تنفيذها قد يكون هذا صعبا في دولة مركزية منذ أيام مينا نارمر موحد القطرين, وما يصلح مع سمير فرج قد لايصلح مع غيره, فهو قادم من مؤسسة الضبط والربط, وله علاقات قوية بمراكز صناعة القرار, علاقات تفيده في الاستجابة لما تحتاجه المدينة.. من قرارات مركزية مهمة وتمويل ضروري من خزانة الدولة أو من المعونات الخارجية المعنية بالآثار والبيئة والتنمية. لكن. من هو الذي حاول في أي مكان آخر واجتهد وأفسح لحياة الناس عرش اهتماماته ولم ينجح؟ وسألت سمير فرج: أحيانا تحتاج إلي قرارات من الوزارة في القاهرة.. والمسافة بين القاهرةوالأقصر700 كيلو متر قد تقطعها الإجراءات الإدارية في شهور أو سنوات.. فكيف اختصرت الزمن؟! أحاب: بالعلاقات المباشرة مع الوزراء, لو فيه حاجة ضرورية أنزل بنفسي إلي مصر أخلصها, لافاكسات تنفع ولامكالمات تليفونية تصلح ولا رسائل عاجلة تجيب نتيجة! ودارت عجلة العمل.. وكانت خدمات المواطنين في البنية الأساسية هي كلمة السر التي فتحت الأبواب المغلقة الي تنمية الأقصر: كهرباء دخلت, ومياه تضاعفت وصرف صحي تمدد, وطرق أنشئت, وشوارع توسعت, ومواصلات تحسنت, ومعديات نيلية تغيرت, وأسواق تطورت وشقق سكنية بنيت ومدارس فتحت ومستشفيات تجددت.. الخ. لكن العشوائيات هائلة ومتشبعة في كل مكان بالمدينة مثل الطفيليات الشرسة, حول المعابد وفوق طريق الكباش, وفي البر الغربي, وفي حرم السكك الحديدية.. وكان يجب أن تزال دون هوادة. لم تكن الإزالة سهلة أو ميسرة, بل علي العكس قاومها الناس كالعادة, وتجمعوا في مظاهرة أمام مسكن المحافظ وقذفوه بالطوب, خاصة أن قرارات الإزالة طالت جوامع وكنائس.. وبيوتا عمرها تجاوز ستين أو سبعين عاما! لكن بالحوار ودخول الكبار المؤثرين شعبيا الي ساحة القرار, ومع إيجاد بدائل مقبولة من الناس عن بيوتهم المزالة.. تحرك قطار الإزالة علي القضبان الصدئة لأول مرة, خاصة أن المحافظ لم يلق بمسئولية العشوائيات علي كاهل الناس, ولم يحاسبهم حساب الملكين عنها, وإنما قال لهم: كل ساكن له شقة بديلة أو تعويض75 الف جنيه! وسألت سمير فرج: ما هو أصعب موقف واجهته مع الناس؟! رجع إلي الوراء بكرسيه ونظرة أسي تطل من عينيه وأجاب: في مرة قالت لي امرأة عجوز.. حرام عليك البيت فيه رائحة جوزي.. طبطب عليها وقال: غصب عني ياحاجة وسكنت العجوز بجوار جيرانها حتي لاتشعر بغربة في المكان الجديد وهذا يفرض سؤالا: اذا كانت عمليات الإزالة قد جرت في الأقصر دون خسائر فادحة, مع أنها تعد الأكبر في تاريخ مصر الحديث آلاف البيوت فلماذا لم نستفد من هذه التجربة مع إزالات الدويقة؟! في الدويقة جاء محافظ القاهرة بسيف الحساب الحاد بعد ربع قرن من الاستقرار العشوائي دون أن يفكر للناس في حلول بديلة مقبولة, وكان طبيعيا أن يغضب الناس ويقاوموا السلطات وتقع خسائر, فليس بعد العراء ذنب.. ومساكن الإيواء غير صالحة للاستخدام الآدمي.. وهذا لايعني أن ندع العشوائيات السرطانية تسعي بيننا مثل الحيات القاتلة, فالعشوائيات ليست مجرد بيوت خارج القانون وإنما هي سلوكيات وتصرفات تفسد كل شيء في حياتنا, لكن التخلص منها يجب أن يحدث وفق برنامج قومي شامل علي سنوات طويلة, مع توفير البدائل لسكانها, فالحكومة إن لم تكن شريكا في العشوائيات, فعلي الأقل كانت محرضا قويا ولايجوز أن تهرب من هذه المسئولية, فالناس علي دين حكوماتهم! وليس الناس العاديين فقط هم الذين يقاومون الازالات, وإنما أصحاب النفوذ والمصالح الواقع عليها الضرر. فسألت الدكتور سمير فرج: وماذا فعلت مع مراكز القوة المالية والسياسية في المدينة؟! أجاب: كان واحد منهم رافضا نزع ملكية أرض يملكها.. فلجأت إلي المجلس المحلي حسب القانون, فرفض المجلس قرار نزع الملكية, أعدت عرض القرار بعد15 يوما, فرفض مرة ثانية, أرسلت إلي مجلس الوزراء طالبا لجنة تحقيق, جاءت اللجنة, ووافقت.. ونزعنا الملكية بالتعويض المناسب. وهذا ماصنعه أيضا سمير فرج في إزالة المركزي الفرنسي وبيت الأثري الكبير جورج لوجران مكتشف خبيئة معبد الكرنك, من أمام ساحة المعبد, ضمن خطة عودة المعبد إلي الحال التي كان عليها قبل ثلاثة آلاف سنة.. واعترض الفرنسيون وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها.. فالبيت له مكانة أثرية ومبني من مائة سنة تقريبا, وجاءت لجنة من اليونسكو تفتش وتنقب, وشاهدت خطة تنمية المدينة, وكتبت تقريرا انحازت فيه إلي الإزالة وقالت: هذه رؤية مستقبلية, وإن تطوير ساحة الكرنك أهم من الحفاظ علي بيت لوجران, فالبيت ذو قيمة تراثية ثانوية بالنسبة لقيمة معبد الكرنك بعد التطوير! هذه التجربة تعلمنا كيف نتعامل مع المؤسسات الدولية وندافع عن قراراتنا الصائبة بالوثائق والأوراق والبرهان.. دون أن يضعنا أحد في خندق أو يحاصرنا في زاوية وينهال علينا تجريحا واتهامات, ونحن أصحاب الحق. والذي يزور معبد الكرنك أعظم آثار العالم علي الإطلاق لن يصدق ماحدث لساحته من تطوير, فقد اختفت عشوائيات تشوهه وماعز ترعي فيه ودراجات تتهادي علي أرضه وعربات حنطور تتقافز حوله ومياه جوفية تحاصره.. لكن عملية إعادة البعث المخططة للمعبد لم تستكمل بعد, فطريق الكباش يجري اكتشافه الآن, وهو الطريق الواصل من معبد الأقصر إلي معبد الكرنك, وكان الفرعون يقطعه كل عام ليقدم القرابين إلي كبير الآلهة, وقد رجعت كباش كثيرة إلي الحياة وكانت مدفونة تحت البيوت المزالة.. ومن المحتمل أن يري العالم معالم الطريق الشهير في مارس المقبل.. باختصار طيبة القديمة يعاد ولادتها من جديد.. وبالطبع كل هذه الأشغال يلزمها عمالة جديدة تخفف من ثقل أنفاس البطالة علي حياة الشباب وعائلاتهم.. وكان طبيعيا أن تأتي الأقصر في عام2007 كأفضل ثاني مدينة في مسابقة تطوير العواصم والمدن الإسلامية, ثم تختارها جريدة الدايلي تلجراف البريطانية علي رأس المقاصد السياحية علي ظهر الأرض في العام التالي مباشرة.. وأتصور أنها ستكون أهم مدينة في العالم بعد سنوات قليلة!