الأزمة المالية العالمية لاتزال تثير المخاوف, وتجبر أوروبا علي مراجعة سياساتها, والبحث عن فرص بديلة, وأسواق تنتظر استثمارات جديدة. وهذه المراجعة كانت واضحة في جلسات وأروقة المنتدي الاقتصادي والمالي المتوسطي بمدينة ميلانو الايطالية. وعكست الموضوعات الأربعة التي جري الحوار حولها صدي الأزمة.. فقد كانت حول حلول جديدة للنمو, واقامة منطقة تجارية حرة, ودعم آليات التعاون الاقتصادي من أجل المشروعات الصغيرة والمتوسطة في المنطقة الأورومتوسطية والتكامل في مجال الطاقة وشبكات التوزيع. هذه عناوين مختارة بعناية إلا أن اللافت كان تخصيص ورشة عمل حول الإعلام في المنطقة الأورومتوسطية ورؤيته للأزمة.. وشاركت في هذه الندوة بورقة عمل تعكس رؤية للشرق الأوسط ما بعد الأزمة, فيما يبدو فإن أوروبا مستعدة لإعطاء المشروع الأورومتوسطي فرصة أخري تحكمها العقلانية والمصالح الملحة.. فما الذي تغير؟! فرصة من رحم الأزمة! لعل أهم نقطة بداية هي إدراك أن منطقة الأورومتوسطي تعد سوقا لما يزيد علي600 مليون مستهلك, كما أن قيمة التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي ودول جنوب وشرق المتوسط بلغت250 مليار يورو في عام2009, وفي الوقت الذي تعصف فيه الأزمة العالمية بالاقتصادات الأوروبية, فإن دول جنوب المتوسط سجلت معدلات نمو بلغت4% في المتوسط في عام2009, ومن المتوقع أن تصل الي5% عام2010, ولا توجد دول أخري حققت معدلات أفضل من ذلك سوي الصين والهند, وفي مقابل التردد الأوروبي, فإن الصين بل والهند أصبحتا أكبر ديناميكية في التوجه نحو المنطقة, وارتفعت الأصوات العربية والأوروبية معا خلال المنتدي بشأن عجز أوروبا عن التحرك بسرعة وفاعلية لتحقيق الاندماج المطلوب مع جنوب المتوسط, ويري البعض أن أوروبا بانغلاقها علي مصالحها الوطنية الضيقة تعاني من صعوبة وضع سياسات خارجية مشتركة, كما حالت هذه المصالح دون تكوين رؤية مشتركة للسياسات الاقتصادية في مواجهة التحديات الكبيرة للألفية الجديدة, والتطور الكبير للطبيعة الجيوسياسية للمنطقة, واصطدمت محاولات اسبانيا وفرنسا وايطاليا بتعميق العلاقات مع دول جنوب المتوسط بحقيقة أن دول شمال أوروبا غير مهتمة. ويشكو الايطاليون من أنه ليس من قبيل المصادفة أن تظل أوروبا بلا سياسة مشتركة حول الهجرة, ويذهب الكثيرون الي أن التوجه الأوروبي كان خاطئا من عدة أوجه: فقد كانت عملية برشلونة التي انطلقت عام1995 طموحة بدرجة مبالغ فيها, وتكاد تكون خيالية فيما يتعلق بإيجاد إطار سياسي من أجل الحوار والتعاون, وذلك في الوقت الذي شهدت فيه عملية مدريد اخفاق محادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية, والنتيجة مأزق خانق استمر لسنوات, ولم يكن لسياسة الجوار الأوروبية والتي بدأ تفعيلها عام2004 نتائج ملموسة, والآن فإن الاتحاد من أجل المتوسط لم يأخذ الفرصة الكافية للحكم عليه, إلا أن محاولات اقامة مشروعات ملموسة والتركيز علي المبادرات الاقتصادية بدلا من المفاوضات السياسية ربما تصادف حظا أفضل!, ولذا يقول الايطاليون ان منتدي ميلانو الذي يعقد سنويا خطوة في الاتجاه الصحيح من أجل علاقة متوسطية أوثق! بوابة المتوسط! وبصراحة متناهية وضعها برونو ايرمولي رئيس هيئة بروموس بالغرفة التجارية الايطالية بتأكيده أن ايطاليا هي بوابة البحر المتوسط, وهذا ليس من فراغ لأن ايطاليا هي الشريك التجاري الأول لمنطقة جنوب المتوسط, وبلهجة كاشفة قال ايرمولي اذا لم نستمر في توجهاتنا من أجل الاندماج فاننا سوف نعاني, ويري أننا نعاني الآن, ويتطلع لقيام منطقة التجارة الحرة ما بين أوروبا وجنوب وشرق المتوسط بحلول2030. بيرلسكوني: المستقبل وردي! وحينما جاء الدور علي رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو بيرلسكوني, فقد أثار جوا من البهجة, فبعد أن هنأ اسبانيا ببطولة كأس العالم لم يمسك نفسه ليقول انها تسير علي نهج بلاده وأبدي بيرلسكوني سعادته بعلاقاته الجيدة مع الجميع خاصة زعماء دول جنوب المتوسط, وقال إننا سوف نستمر في الانفتاح علي الجميع, وأن المؤشرات المتوافرة تسمح لنا بالنظر الي المستقبل بثقة وايجابية فهو مستقبل وردي!, وطالب بضرورة إيجاد مشاركة مع أسواق المتوسط لأنها المنطقة الأقرب لنا, ولم ينس بيرلسكوني أن يطالب السفراء أن يحضروا معهم نساء جميلات في المرة المقبلة. وفي المقابل فإن انطونيو تاجياني نائب رئيس المفوضية الأوروبية دعا بحزم أوروبا لكي تنظر الي دول المتوسط بصورة أخري, وقال لا يجب أن نعيد الزمن الاستعماري وبينما أكد داريو سكانبيكو نائب رئيس بنك الاستثمار الأوروبي أن الاندماج مسألة مهمة, وقال نريد التعاون معكم لممثلي دول الجنوب, إلا أنه أبدي بعض الملاحظات: النمو في الجنوب ليس كافيا للتغلب علي البطالة, لابد من إيجاد بيئة جيدة للاستثمار, وبالرغم من الحضور السوري الملحوظ في المنتدي, إلا أن نائب رئيس الوزراء السوري عبدالله الدرداري اختار لهجة صريحة بتأكيده أن الأوروبيين يجب أن تكون لديهم قناعة راسخة بأن جنوب المتوسط ليس مصدر مشكلات! بل هي منطقة بها فرص وليست تحديات فقط, وقال إن سوريا بحاجة الي100 مليار دولار استثمارات لرفع معدل النمو الي6% سنويا, وفيما يتعلق بتحقيق رؤية الاندماج فانها لن تتحقق دون تحقيق السلام, كما لايمكن أن نكون في فضاء واحد دون أن نكون متساوين. وجاءت الرؤية التونسية عملية, فقد اختصر وزير التعاون الدولي والتنمية محمد نوري جويني الأمر بتأكيده ضعف اندماج الفضاء المتوسطي في زمن التكتلات, بالرغم من أن المصلحة المشتركة هي أن يكون للاتحاد الأوروبي شركاء في جنوب المتوسط ذو قدرة تنافسية اقتصادية عالية, وأن يكون لبلدان الجنوب شريك أوروبي فاعل علي المستوي الدولي. الإعلام.. أوروبا بعيدة! ولم يكن حوار الإعلاميين أقل حرارة, فقد ذهب ستيفانو بولي رئيس تحرير أنسا المتوسط بوكالة الأنباء الايطالية الي أن أوروبا لا تفهم الموقف, ولا تري أن الجنوب ينمو, وأن اقتصاد المنطقتين( أوروبا وجنوب وشرق المتوسط) يكملان بعضهما البعض, ولابد من سياسة مشتركة تجاه مسألة الهجرة, وضرورة أن يكون التعاون أكبر براجماتية, وأشار الي أن خدمة أنسا المتوسط هذه أداة براجماتية. وأكد نائب رئيس تحرير الأهرام محمد صابرين في مداخلته, أن السياسة ستظل تطاردنا وأن عدم حل الصراع العربي الإسرائيلي سوف يخيم علي جميع مشروعات الاندماج والتعاون, وأن المشكلة هي عدم رغبة الجانب الإسرائيلي في السلام, بالرغم من أن تفاصيل الحل التاريخي معروفة وجميع المسئولين الأوروبيين سيعترفون بذلك, إلا أن أوروبا لا تضغط علي إسرائيل! وفيما يتعلق بالأزمة فقد جاءت لتطرح أسئلة مهمة بشأن عوائد وتكاليف الاندماج في الاقتصاد العالمي, وأن التركيز الآن يجب أن ينحصر في تحقيق النمو وإيجاد فرص العمل, ولابد من عقد مؤتمر موسع بين أوروبا ودول المتوسط لمناقشة التجارب الناجحة في إيجاد فرص العمل, ولابد من اعطاء دفعة كبيرة للتعاون الأورومتوسطي, لان الأمر بحاجة لما هو أكثر من النيات الحسنة, ومازالت أوروبا بعيدة ولا تؤثر في حياة الناس في منطقتنا, وأكد أن أهم درس من الأزمة هو الدور الحيوي للصحافة والاعلام في مراجعة وتحدي الأفكار الجاهزة بشأن الأفكار والسياسات الاقتصادية حتي لا تتكرر الأزمة ثانية, ويبقي أن هذه مجرد لمحة من حوارات طويلة بشأن الأزمة العالمية التي تفرض وجودها علي ضفتي المتوسط!