العنوان مستمد من مقال سابق للأستاذ محمد حسنين هيكل نشر في الأهرام في مطلع عام1971 للتحذير من خطورة العقبات التي علي جند مصر التعامل معها من أجل عبور قناة السويس, ومن ثم وجبت التحية للأبطال الذين عليهم التفوق علي المستحيل. وبغض النظر عما ظهر بعد ذلك من أن هدف المقال لم يكن تحية الرجال بقدر ما كان تحذيرا مما اعتبره الكاتب مغامرة التعجل في التوجه نحو الحرب, وهو الأمر الذي كانت مراكز القوي تسعي في اتجاهه, أو هكذا كانت القصة; فقد ظل للعنوان معناه العميق الذي ظهر معناه مبهرا بعد ذلك بسنوات قليلة. ولما كان العنوان مؤثرا فقد استخدمته في مكان آخر عندما فرضت الأيام أن يكون الطريق بين مسكني والأهرام يسير جنبا إلي جنب مع التطور الذي كان يجري في كوبري السادس من أكتوبر حتي وصل إلي منتهاه الحالي. وعاما بعد عام, وصيفا بعد شتاء, كان الرجال معلقين بين شدة برودة الهواء وحرارة الطقس يبنون طريقا لا أدري كيف كانت ستكون حال القاهرة بدونه. كان العرق ظاهرا, والسواعد تعمل بلا توقف, والهمة فيها من الحماس ما يذكر بخبرتي في حرب أكتوبر حيث كانت البطولة تظهر بقوة ساعة الاشتباك, وهذه المرة كانت البطولة أيضا تظهر ساعة البناء. أيامها وجهت التحية للرجال الأبطال من شركة المقاولين العرب الذين كانوا يبنون صرحا سرعان ما تكرر بعد ذلك في أشكال مختلفة من الطرق والجسور والأنفاق. شيء مثل هذا جري قبل فترة قصيرة عندما دعاني المهندس علاء فهمي وزير النقل لحضور افتتاح المرحلة الثالثة من مترو الأنفاق; وفي اليوم المحدد كان في الحضور رئيس مجلس الوزراء ومجموعة من الوزراء وعدد من الصحفيين, وبعدها هبط الجمع من محطة العتبة خمسة طوابق علي ما أظن حتي وقفنا علي شرفة تطل علي حفار عملاق صنع خصيصا لهذا المشروع. كان مشهد الحفار مهيبا بلا شك بحجمه الهائل وقواطعه القاطعة أيضا, وما عليك إلا أن تتخيل كيف سوف يذهب مذهب مشرط الجراح في باطن الأرض يخلق طريقا ومسارا لعربات وبشر وقواطر ومحطات تأتي إليها الحياة كل يوم بأشكال مختلفة. ولكن كل ذلك أمر ومشهد الرجال أمر آخر; فقد كانت درجة الحرارة مرتفعة فوق سطح الأرض, وباتت نوعا من الجحيم في باطنها, وبين هذه وتلك كان الرجال من بناة مصر بنوعيات أعمالهم المختلفة يتحركون بسهولة ويسر وكأنهم يصنعون الأنفاق كل يوم وسط نسائم منعشة. وسط ذلك كله كان لا بد أن يأتي إلي الذهن الكثير من الحوارات والشجارات الجارية في المقاهي التليفزيونية الليلية بعيدا عن عمليات البناء والخلق الجارية علي أرض مصر وتحتها دون أن يلحظها أو يقدرها أحد. وفي يوم من الأيام سوف ينتهي الخط الثالث, وعندما يصبح مكيفا تماما بالهواء البارد المنعش سوف يكون الرجال قد ذهبوا إلي موقع آخر يخلقون فيه ما لم يكن مخلوقا من قبل. ووفقا لما هو منشور علي الموقع الالكتروني للهيئة القومية لسكك حديد مصر, يعد مترو أنفاق القاهرة هو الأول من نوعه في افريقيا والشرق الأوسط, ويمثل أحد أبرز المشروعات المصرية العملاقة خلال القرن العشرين بالتعاون مع الخبرة الفرنسية, لدرجة أنه يطلق عليه' هرم مصر الرابع'. وهو يمثل أحد الأعمدة الفقرية لخدمات النقل في مصر, لدرجة أنه قد يوقف الحركة في شوارع العاصمة إذا ما توقف لسبب أو لآخر. وفي المرحلة الحالية يوجد خطان يعملان بكامل طاقتهما, الخط الأول( المرج حلوان) ويمر علي أهم المناطق المأهولة بالسكان ومراكز الأعمال, ويبلغ إجمالي طول الخط44 كيلومترا ويحتوي35 محطة, ويحمل هذا الخط يوميا ما يزيد علي1.4 مليون مسافر علي46 قطارا. وقد بدأ إنشاء هذا الخط في عام1982 وتم الانتهاء منه في عام1989 بتكلفة إجمالية بلغت مليارين من الجنيهات. أما الخط الثاني فيمتد من القليوبية إلي المنيب بإجمالي طول19 كيلومترا ويمر في21 محطة, وينقل هذا الخط يوميا حوالي0.7 مليون مسافر علي35 قطارا. وقد تم الانتهاء من هذا الخط في عام2000 بتكلفة إجمالية9 مليارات جنيه. ويوجد حاليا الخط الثالث تحت الإنشاء( إمبابة مطار القاهرة) ويوجد خطوط أخري تحت التخطيط( مدينة نصر العباسية الهرم) بطول24 كم و( مدينة نصر مصر الجديدة شبرا) بطول19 كم و( المعادي شبرا) بطول20 كم, وتبلغ تكلفة الخط الثالث والرابع51 مليار جنيه. أهمية مترو الأنفاق كحل حتمي لمشكلات العاصمة المصرية مسألة باتت لا تحتمل نقاشا طويلا, حيث تعد القاهرة أكثر مدن العالم ازدحاما, حتي إن هناك بعض التصنيفات تضعها في المرتبة السابعة عالميا من حيث الازدحام المروري. ويبلغ تعداد السكان فيها ما بين9.2 إلي10 ملايين نسمة, يضاف إليها مليونان علي الأقل, وهم الوافدون علي القاهرة من المحافظات القريبة منها, لارتباطهم بأعمالهم ووظائفهم ويغادرونها في نهاية اليوم. أما إذا أضفنا إلي القاهرة إقليمها الكبير الممتد الآن إلي الجيزة ومحافظتي حلوان و السادس من أكتوبر, فإننا نصبح أمام ميجا سيش بالمعني الحرفي للكلمة. فضلا عن ذلك, فإن الكثير من وسائل النقل العام قد انتهي عمرها الافتراضي ولم يتم الإحلال محلها سوي في الفترة الأخيرة, وهو الأمر الذي تطلب معه وجود وسائل نقل بديلة. كما أن استهلاك الوقود في الانتظار أمام إشارات المرور لاسيما في أوقات الذروة, وبصفة خاصة في وسط المدينة, وهو ما ينتج عنه خسائر تلحق بالاقتصاد القومي, فضلا عن ضياع أوقات المواطنين, لدرجة أن هناك من يذهب إلي أن عدم إجادة الموظف المصري في عمله يرجع إلي البهدلة التي يراها من ركوبه المواصلات, في حين أن راكب المترو لم يواجه مثل هذه المعاناة. ووفقا لما هو وارد في الموقع الإلكتروني للهيئة القومية للأنفاق, يوجد114 مدينة في مختلف قارات العالم تحتوي خطوط مترو, وتحتل القاهرة المرتبة الخامسة والثلاثين من ناحية أطول خطوط المترو. ولكن الأمر الهام في الموضوع ليس فقط حجم وطول النفق ومدي الإنفاق عليه إلي آخر المؤشرات المادية الأخري, وإنما ذلك الجهد والعرق الذي يبذل في معركة للبناء وتغيير وجه البلاد. ولمن لا يعلم فإن التفكير في مترو أنفاق القاهرة تم التفكير والتخطيط له في عام1964, ولكن التنفيذ احتاج أكثر من عقدين لكي يبدأ, خاضت فيهما مصر ثلاث حروب( يونيو1967, والاستنزاف1969 1970, وأكتوبر1973). وما زلت أتذكر عندما زرت مدينة المكسيك العاصمة عام1985, وفيها عرفت أن مترو المدينة بدأ البناء فيه عام1964 أيضا, ولكن بعد عقدين كان هناك بالفعل100 كيلومتر من الأنفاق تحت الأرض يجري فيها ملايين البشر كل صباح. والحقيقة أنه لا توجد تحية للرجال المصريين قدر تلك التحية لمن يعمل ويعرق ويقيم البناء, وفي يوم من الأيام كان بناء السد العالي مصدر إلهام كبير لشعب مصر وشعوب أخري. وقد بدأ البناء في السد العالي خلال عهد الرئيس جمال عبد الناصر, وتحديدا في عام1960, للتحكم في تدفق المياه والتخفيف من آثار فيضان النيل, فضلا عن توليد الكهرباء. ويبلغ طوله3600 كم, وعرض القاعدة980 مترا وعرض القمة40 مترا, ويصل ارتفاعه إلي111 مترا, ويمكن أن يمر خلال السد تدفق مائي يصل إلي11000 متر مكعب من الماء في الثانية الواحدة. وقد بلغت تكلفة تمويل بناء السد العالي210 ملايين جنيه, وتصل هذه التكاليف إلي400 مليون جنيه إذا ما أضيف إليها بقية تكاليف المشروع من ري وصرف واستصلاح وإسكان ومرافق وطرق. ومنذ سنوات صدر تقرير عن الهيئة الدولية للسدود والشركات الكبري, يشير معدوه إلي تفوق السد العالي علي122 مشروعا عملاقا علي مستوي العالم, وتم اختياره كأعظم مشروع هندسي شيد في القرن العشرين. وعلي أقل تقدير, يحتل السد العالي مكانة متقدمة في حال مقارنته بالسدود الهامة في العالم, حيث يأتي في المركز الأول عالميا بسعة تخزينية قدرها182.3 مليار متر مكعب عند مستوي185 مترا, وإن كان التخزين حتي مستوي185 يعد حالة استثنائية. أما من حيث معيار حجم المواد المستخدمة في بنائه, فيعد السد العالي ثامن سد في العالم, حيث استخدم في بنائه نحو43 مليون متر مكعب من المواد المختلفة بما يزيد علي17 مرة قدر المواد المستخدمة في بناء الهرم الأكبر.أما في حال مقارنة السد العالي من زاوية حجم المواد المستخدمة فيه بالسدود الركامية فإنه يحتل المرتبة الثانية عالميا بعد سد نوريك الذي شيد في عهد الاتحاد السوفيتي السابق. وفيما يتعلق بقدرة المحطة الكهرومائية للسد, فإنها تأتي في المركز الثامن بقدرة تبلغ2100 ميجاوات ويسبقها خمسة سدود في الاتحاد السوفيتي السابق وسدان آخران في الدانمارك. ولكن سواء كان الأمر موجودا في بناء السد العالي, أو حفر مترو أنفاق القاهرة, أو مد العمران والمواصلات والحياة لكل أنحاء مصر, فإن ذلك شهادة للمصريين الذين اختاروا العمل والتنمية بدلا من ضجيج القول وثرثرة الكلام. ولهؤلاء جميعا التحية, فالمسألة هي قضية عبور مصر بسلام إلي بر التقدم وتغيير أشكال الحركة والعمل في قلب المحروسة, وبعد ذلك توجد كل القضايا الأخري.