تواترت أحاديث السيد وزير المالية والتي أسندت إليها أعمال وزارة التأمينات مع تشكيل الوزارة الحالية في سنة2005 عن عزم الوزارة علي تغيير قانون التأمينات الاجتماعية رقم79 لسنة1975, وإصدار قانون جديد ينطبق علي من سيدخلون سوق العمل بعد صدور القانون الجديد,. وأن المشروع الجديد سيخفض الاشتراكات المفروضة علي العمال وعلي أصحاب الأعمال بحيث ستحسب الاشتراكات علي الأجر الشامل الواقعي بنسبة تتراوح بين12%,18%, وأنه سيكون لكل مشترك حساب خاص يستثمر ما تجمع فيه من خلال شركات خاصة مسجلة. وكوسيلة لتمرير المشروع وعدم تخويف الخاضعين الحاليين للقانون79 لسنة1975 يقرر أنهم لن يتأثروا بالمشروع الجديد, وهذا هو مايروجون له منذ أن خضعت هيئة التأمينات الاجتماعية وبنك الاستثمار القومي إلي سيطرة وزير المالية. ويعجب المرء للتكثيف الإعلامي والإعلاني عن المشروع الجديد الذي يتبناه السيد وزير المالية والذي يراد به العصف بالنظام الموجود للتأمينات الاجتماعية, علي أساس من الادعاء بأنه يحقق عجزا ماليا وأنه سيحقق عجزا ماليا في المستقبل. رغم أن نظام المعاشات المصري الذي نظمه القانون79 لسنة1975 من الناحية الموضوعية والمالية والفنية من أعظم ما حققته مصر في الخمسين سنة الأخيرة. فالنظام القائم بدأ بالقانون419 لسنة1955 بإنشاء مؤسسة التأمين والادخار وأضيفت إليه معاشات الشيخوخة والعجز والوفاة بالقانون92 لسنة1959 والذي حل محله القانون63 لسنة1964 وأخيرا هذا القانون79 لسنة1975 والذي وحد معاشات العاملين في الحكومة والعاملين في القطاع العام والخاص. ونجاح هذا النظام يظهر من تراكم احتياطياته التي قد تصل هذا العام في رأي بعض المختصين أكثر من400 مليار جنيه مصري. ويكفي أن نشير إلي ما أعلنه ذات السيد وزير المالية وزير التأمينات الاجتماعية قد بلغت خلال عام2009/2008 مبلغ60,3 مليار جنيه وأن المعاشات المنصرفة من الصندوقين قد بلغت في نفس الفترة31.6 مليار جنيه وأن الاشتراكات التي وردت للصندوقين قد بلغت31,8 مليار جنيه). إذا أخذنا هذه المبالغ علي أنها تمثل بصدق حالة صندوقي التأمينات الاجتماعية لموظفي الحكومة وللعاملين بالقطاع العام والقطاع الخاص نجد أن النظام الحالي للتأمينات الاجتماعية لايبدو أن يحقق عجزا, بل نجد أن الفائض المحقق كبير. فما زالت الاشتراكات السنوية تساوي وتزيد علي المعاشات والتعويضات المنصرفة. ومعني ذلك أن عائد الاستثمار البالغ طبقا لبيان الوزارة22 مليار جنيه لم يمس ولم يصرف منه شيئا, وأنه سيضاف إلي مبلغ الاحتياطيات المتراكمة المودعة بحكم القانون لدي بنك الاستثمار القومي أو أنه سيقرض إلي الخزانة العامة أو الهيئات الاقتصادية العامة أو سيستثمر في إيداعات لدي البنوك أو في أسهم أو سندات. والواقع أنه يمكن لنا أن نقول ببساطة أن احتياطيات الصندوقين تزيد كل عام بما لا يقل عن20 مليار جنيه نحو( عشرين مليار جنيه) في المتوسط. وهذا مبلغ كبير يغطي ويزيد علي الالتزامات المستقبلية للصندوقين. وليس من العسير أن نعرف سر نجاح نظام المعاشات المصري. فهناك نظامان عالميان للمعاشات: الأول هو نظام الاشتراكات المحددة والثاني هو نظام المزايا المحددة. جمع النظام المصري للمعاشات حين نشأ في الخمسينيات علي أسس اكتوارية دقيقة بين مزايا النظامين: نظام الاشتراكات المحددة, ونظام المزايا المحددة, فمنذ البداية والقوانين السابقة الاشارة إليها تحدد بدقة نسبة الاشتراكات التي تخصم من الأجر, كما تحدد قدر وكيفية حساب المزايا التي سيحصل عليها المؤمن عليه حين يخرج علي المعاش, وتلك التي يحصل عليها المستحقون بعد وفاته. ولذلك يوصف النظام المصري بأنه نظام هجين, دمج مزايا النظامين وتحاشي عيوب كل منهما. علي عكس النظام الحالي يقوم المشروع المقترح الذي يتبناه السيد وزير المالية علي أساس نظام الاشتراكات المحددة فقط حيث يعرف فيه العامل أو الموظف ما الاشتراكات التي ستخصم من أجره, ولكنه لن يعرف مستحقاته ولا المزايا التي سيحصل عليها حين يخرج علي المعاش. وعدم تحديد هذه المزايا في المشروع المقترح مقصود وليس عن طريق السهو أو الخطأ. إذ أن النظام المقترح يقوم علي أساس أن الاشتراكات ستوضع في حساب خاص لكل عامل أو موظف, وأن هذا العامل أو الموظف سيحصل علي ما في حسابه عندما يخرج علي المعاش, كبيرا كان هذا المبلغ أو قليلا بحسب ما إذا حسن استثماره أو ساء حظه. الراجح لدينا أن الغرض من النظام المقترح هو تخفيض عبء الاشتراكات علي الدولة كصاحبة عمل مضطرة إلي سداد الاشتراكات عن موظفيها كما يفيد أيضا أصحاب الأعمال في القطاع الخاص, بتخفيض تكلفة العمل مما قد يسهل, حسب قولهم. دخولهم في المنافسة العالمية. الغرض الآخر قد يتمثل في إتاحة الفرصة لشركات إدارة الاستثمارات وسماسرة سوق المال لادارة أموال التأمينات المجمعة في الحسابات الشخصية للمؤمن عليهم في النظام المقترح. وأيا كانت الأغراض الدفينة للاصرار علي تغيير نظام التأمينات الاجتماعية القائم, فالمؤكد أن المؤمن عليه سيتحمل عبء ومخاطر الاستثمار كما سيتحمل مخاطر طول العمر. ناهيك عما يقال من أن هذا المعاش لن يورث. ففي هذا النظام المقترح سيقتصر الأمر علي أن العامل أو الموظف حين يخرج علي المعاش يستطيع أن يستخدم المبالغ المجمعة في حسابه الخاص في شراء وثيقة معاش لورثته من إحدي شركات التأمين, وهي وثيقة مكلفة لم تتعودها السوق المصرية بعد وعلي وجه التأكيد لن يحقق المزايا التي يكفلها نظام القانون79 لسنة1975 للأولاد أو البنات إلي السن المحددة حاليا. لكي نخرج من هذه المشكلة في حالة ما إذا كانت هناك رغبة في إدخال النظام المقترح إلي مصر, فليسمح لنا بأن نقترح الابقاء علي النظام القائم دون المساس بأصوله, وأن يكون النظام المقترح نظاما تكميليا للنظام القائم. في الختام فالرأي عندنا أن يبقي النظام الحالي ولا يقفل علي من هم موجودون بالخدمة حاليا. بل يظل مفتوحا لكل من يدخل الخدمة, لأن حرمان الجدد من الاستفادة من النظام القائم79 لسنة1975 يعتبر مخالفا لقواعد المساواة وسيشوب أي نص شبهة عدم الدستورية, كما أن النظام القائم سيختنق ويموت. وتضيع المليارات المكونة لاحتياطيات الصناديق وكأنها صودرت من طرف وزارة المالية, وهو أيضا ما لا يسمح به الدستور, حيث أموال التأمينات أموال خاصة لجميع المؤمن عليهم.