لاتزال المانيا الموحدة تبحث عن الأسلوب الأمثل للتعامل مع مشاعر الوطنية والانتماء للهوية الألمانية التي تتفجر بقوة كلما شاركت وحققت ألمانيا انتصارات رياضية عالمية. وهو ما يعبر عن هاجس القومية الألمانية الذي لايزال يؤرق الكثيرين في هذا البلد بل وفي العديد من الدول الأوروبية الجدل حول حق الألمان في التعبير عن شعورهم الوطني بالفخر والانتماء لبلادهم بعد كل انتصار رياضي ليس جديدا, فقد بدأ في بطولة كأس العالم التي استضافتها ألمانيا عام2006 وشهدت لأول مرة في تاريخ ألمانيا الحديث بعد الحرب العالمية الثانية تعبيرا واثقا من الألمان عن وطنيتهم فغمرت أنحاء البلاد أمواج من الاعلام الألمانية التي غطت كل شيء ابتداء من جدران المنازل وأسوار الشرفات والسيارات وتحولت ايضا الي موضات للملابس وزينة للوجوه, وقتها خرجت المنظمات اليسارية ومعها المثقفون والسياسيون المناهضون للقومية الألمانية يحذرون من الاستسلام لهذه الموجة المخدرة من مشاعر الوطنية ومذكرين بتاريخ المانيا ومخاوف الجيران الأوروبيين من صعود التيار القومي المتطرف من جديد, وبرغم أن إدارة حماية الدستور الألمانية سجلت بالفعل صعودا ملحوظا لجماعات اليمين المتطرف والنازيين الجدد الذين ركبوا الموجة فإن كلمات الرئيس الألماني السابق هورست كولر كانت بمثابة بلسم علي مشاعر المواطنين المتضاربة عندما قال إن الألمان تمكنوا أخيرا من رفع علمهم ورموزهم الوطنية بتلقائية وتخففوا من عبء الماضي. هذه المرة وبعد مشاركة المنتخب الألماني في جنوب إفريقيا اتخذ الجدل حول الوطنية الألمانية بعدا جديدا, بعد أن دخل اندماج الأجانب كعامل جديد في المناقشات الدائرة وبعد أن تصدي السياسيون الألمان وخاصة اعضاء الحكومة الائتلافية بشدة لأية انتقادات وجهت لصعود تيار الوطنية الألمانية من جديد. فقد خرجت منظمات اليسار والنخبة المؤيدة لها هذه المرة بدراسات تحذر مما أسمته بالوطنية الكاذبة التي تدمج الأجانب المهمشين في المجتمع عاطفيا بعد ان فشلت الدولة في إدماجهم اجتماعيا وحذر عالم الاجتماع فيلهملم هياتماير من اتساع الهوة بين الألمان والمهاجرين الأجانب بسبب صعود تيار الوطنية شبه القومية بين الألمان وجاء الرد علي لسان جميع وزراء الحكومة ومن قبلهم المستشارة أنجيلا ميركل بأن الانتصارات الألمانية تحققت بفضل المنتخب متعدد الثقافات الذي يضم في صفوفه أحد عشر لاعبا من أصول مهاجرة, ومن هنا فإن هذا الإنجاز والمشاعر الوطنية المرتبطة به إنما تعمق من ارتباط الأجانب بالمجتمع الألماني. يضاف إلي ذلك أن الانجاز جاء في توقيت وضعت فيه المانيا قضية اندماج الأجانب في مقدمة أجندتها السياسية وجاء في توقيت انتخاب رئيس جديد لألمانيا هو كرستيان فولفو الذي رفع شعار توحيد صفوف المجتمع وجعله اكثر انفتاحا علي العالم. أما وسائل الإعلام الألمانية فقد كانت رسالتها ولاتزال حتي الآن في تغطيتها لمونديال جنوب إفريقيا أنه من حق الألمان أن يفخروا ببلادهم فالمانيا لم تعد فقط للألمان إنما اصبحت دولة متعددة الثقافات. ولم تهتم وسائل الإعلام الألمانية كثيرا بمحاولات من اسمتهم بكارهي المانيا لمنع الألمان من رفع اعلامهم وشعاراتهم الوطنية, مثل تنظيم حفلات لمشاهدة مباريات المانيا في مدينة روستوك شمالا البلاد, غير مسموح بدخولها لمن يحمل علم ألمانيا أو يزين وجهه بألوانه! وهناك أسباب عديدة لما تشهده المانيا من تحول في التعبير عن مشاعر وطنية متزنة بعيدا عن القومية المتطرفة, كما يقول فولكركرونبرج المدير الأكاديمي لجامعة بون الذي يصف مايمر به الألمان بأنه شعور قوي بالهوية الألمانية تكثفه انتصاراتها الرياضية وهو أمر طبيعي بين الشعوب ولكنه يعد ظاهرة جديدة في المانيا نظرا لما تسببت فيه هذه المشاعر في القرن الماضي من حربين عالميتين. ويقول عالم الاجتماع ان ماكان تابوها حتي سنوات قليلة مضت لم يعد كذلك مع بلوغ جيل عام1989 سن الرشد إذا أن علاقة هذا الجيل الشاب بماضي المانيا والهولوكست والحرب والتقسيم ثم الوحدة من جديد هي علاقة نظرية وغير مثقلة بعبء الماضي, وبالتالي فهي علاقة طبيعية علي عكس الأجيال الأقدم التي تربت علي عقدة الذنب ولاتجد تنفيسا لهويتها الألمانية إلا من خلال الهوية الأوروبية. كما أن الدور الرائد الذي تقوم به برلين في مواجهة الأزمات المالية والاقتصادية العالمية كثف من ذلك الشعور الألماني بالثقة في النفس, لذلك فمن المتوقع, بل من المؤكد ان يقوم الجيل الألماني الجديد, الذي يمثله ايضا منتخب الكرة الشاب بنجومه من الألمان ذوي الأصول المهاجرة, والذي يتوق لكسر كل القيود والتعبير عن هويته الألمانية الجديدة, أن يقوم بتغيير الكثير من مبادئ السياسة الألمانية الخارجية عندما يتسلم أبناؤه مواقع القيادة في مؤسسات الدولة الألمانية خلال العقدين المقبلين.