في أجواء يسودها التفاؤل حول المستقبل الاقتصادي لأفريقيا, عقدت مؤخرا بمشاركة مصرية, قمة أفريقيا- فرنسا الخامسة في مدينة نيس الفرنسية والتي جمعت قيادات40 دولة من القارة. وقد عكست القمة التطورات التي شهدتها أفريقيا, خاصة إقليمجنوب الصحراء, حيث غلب عليها روح إعادة الاعتبار للقارة وإعادة صياغة علاقاتها بالعالم علي أساس من الشراكة. وجاء البيان الختامي للقمة مؤكدا القناعة نفسها حيث أعلنت فرنسا ضرورة تعديل مؤسسات وقواعد المحكومية الدولية لتوفير تمثيل أفضل للقارة علي المستوي الدولي. وبالرغم من أنه من المتوقع وجود فجوة زمنية وأحيانا موضوعية بين الخطاب والواقع أو الممارسة, فإن تلك الروح الجديدة في التعامل مع القارة جديرة بالرصد والتحليل, حيث تأتي مخالفة للصورة الذهنية التي سادت لعقود طوال, كان ينظر فيها للقارة السمراء وخاصة إقليمجنوب الصحراء إما كتابع أو محل للفعل, أو فاعل منسي في أفضل الأحوال. ومرد تلك الصورة هو أن أفريقيا وفي الغالب يستخدم المصطلح للإشارة إلي إقليمجنوب الصحراء- كانت تأتي في قاع أي تقسيم عالمي لعناصر القوة. فقد عانت دول إقليمجنوب الصحراء منذ الاستقلال من مشكلات هيكلية فيما يشبه الأزمة الدائمة, والتي كرست من صورته كإقليم/أزمة, منها علي سبيل المثال, الحروب الأهلية, والانقلابات العسكرية, وأزمة المديونية, والإيدز, فضلا عن مشكلات انهيار الدولة, وغيرها من الأزمات التي يعتبر إقليم أفريقيا جنوب الصحراء التجسيد الحي لها. في الوقت نفسه, وبرغم مظاهر الأزمة الهيكلية, لم يفت أبدا أي تقييم موضوعي لقدرات القارة خاصة علي الصعيد الاقتصادي الحديث عن ثرواتها الطبيعية, حيث تتوسط القارة الإفريقية قارات العالم وتسيطر علي أهم الممرات والمنافذ مثل قناة السويس ومضيقي باب المندب وجبل طارق. كما يمتاز إقليمجنوب الصحراء بثروات هائلة تشكل نسبا حاكمة من ثروات العالم من المعادن الاستراتيجية والطاقة, منها نحو78% من الكروم العالمي,5% من النفط, فضلا عن01% من الاحتياطي العالمي المؤكد للنفط, و55% من الذهب,75% من المنجنيزوالبلاتينيوم,59% من الألماس,52% من اليورانيوم, و24% من الكوبالت حيث تمتلك زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطي وحدهما أكثر من ثلث الاحتياطي العالمي, ناهيك عن الإمكانات الزراعية الهائلة. ومن ثم, فقد تفاعل هذا الموزاييك الأفريقي المعقد ليفرز صورة أرض الفرص الضائعة التي سبغت القارة لعقود. إلا أن تلك الصورة قد اختلفت كثيرا في العقد الأخير لتصبح أفريقيا هي أرض الفرصة المحتملة. وقد ساهم هذا التغير الحثيث في وضع القارة عدة عوامل داخلية وخارجية علي الصعيدين السياسي والاقتصادي عدلت من وضع القارة بشكل خاص إقليمجنوب الصحراء- في التراتبية العالمية. وربما لأن الصعود الأفريقي جاء مباغتا, فقد تفاوتت بشأنه التفسيرات من تحسن مناخ المحكومية إلي تراجع دور الدولة وصعود القطاع الخاص, إلي غلبة العوامل الخارجية مثل الدور الصيني, والطلب المستمر من الاقتصادات الآسيوية علي الواردات الأفريقية, بينما لا تحظي التفسيرات السياسية من حيث تغير المناخ السياسي في الكثير من دول الإقليم بأهمية متقدمة في معظم التحليلات. وتعتبر التطورات الاقتصادية بشكل عام هي مناط هذا التغيير, حيث تذهب بعض التقديرات المتفائلة- ومنها تقدير نجوزي أوكونجو أيويالا نائبة رئيس البنك الدولي- إلي أن أفريقيا جنوب الصحراء علي أعتاب اللحاق بالاقتصادات العملاقة الناشئة أو ما يسمي دول البريك(BRIC) وهي البرازيل, روسيا, الهند, والصين كوجهة للاستثمارات الدولية. ومبعث التفاؤل هو أن دول القارة بوجه عام وخاصة جنوب الصحراء تظهر مؤشرات للتعافي من الأزمة المالية العالمية أسرع كثيرا مقارنة بأقاليم العالم المختلفة, وهو ما تؤكده مؤشرات صندوق النقد الدولي, حيث وصل معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي خلال عام2009 إلي4.7% بينما تشير تقديرات الصندوق إلي وصوله إلي6% عام2010. كما أن الثقة في اقتصادات الإقليم تتزايد وأهم انعكاساتها ثبات أو صعود مؤشرات البورصة فيها, وارتفاع أسعار الأراضي, وتحسن مؤشرات ثقة المستهلك والثقة في القطاع المصرفي, في الوقت الذي تعاني فيه معظم تلك المؤشرات من التراجع أو التذبذب في مختلف مناطق العالم. والحقيقة أنه دون المبالغة في حجم واستدامة تلك التطورات الاقتصادية, فإنه لا يمكن فهمها بمعزل عن التنافس الدولي علي استغلال ثروات القارة وتصاعد الدور الاقتصادي الشرقي بوجه عام والصيني بوجه خاص فيها. فقد أدي تنامي طلب الصين علي المواد الأولية ومستلزمات الإنتاج من دول جنوب الصحراء لسد احتياجات التوسع الصيني الصناعي, وتصاعد دورها كشريك تجاري ومستثمر في تلك الدول إلي تحسن شروط التجارة مع دول الإقليم بوجه عام. من ناحية ثانية, فإن الانخراط الصيني في القارة يتم وفقا لشروط وأساليب مخالفة تماما لأساليب الشركاء الغربيين والمؤسسات المالية متعددة الأطراف, والتي تدرجت في فرض المشروطية الاقتصادية ثم السياسية علي دول الإقليم في مقابل الحصول علي المعونات الاقتصادية, بينما تؤكد الصين احترامها للنظم القائمة وعدم تدخلها في الشئون الداخلية للدول الأفريقية. ومن ثم فإن دول جنوب الصحراء التي وجدت نفسها في وضع استراتيجي بالغ التدني بعد انتهاء الحرب الباردة, قد أصبحت الآن مسرحا مهما للتنافس علي النفوذ الاقتصادي العالمي, مما يضع دولها في وضع تفاوضي عالمي أفضل. علي هذه الخلفية من التغيرات, فإن دول حوض النيل, تسعي بدورها للحاق بموجة الأمل التي تجتاح القارة, وإن تفاوتت حظوظها من النجاح في ذلك. وتعتبر كينيا, علي سبيل المثال, إحدي الروافع الإقليمية للنمو في إقليمجنوب الصحراء إلي جانب جنوب أفريقيا ونيجيريا. كذلك تحظي بعض دول الحوض بأنشطة استثمارية صينية ملحوظة منها, علي سبيل المثال, إشراف الصينيين علي شبكات طرق وسكك حديدية تحت الانشاء في كينيا ورواندا, فضلا عن شبكات التليفون المحمول التي تم تشييدها في تنزانيا ولا تعني موجة التفاؤل الحالية أن أفريقيا قد تجاوزت تماما ميراثها من أزمات التنمية الشاملة, فما زالت العديد من دولها تعاني من الاعتمادية الشديدة علي المعونات الخارجية, وتضاؤل الاستثمار الخاص بها, بما يلقي بظلاله علي مدي استدامة موجة التفاؤل. فالموزاييك الأفريقي ما زال بالغ التعقد, حيث يجري الحديث عن انطلاقة كبري للاقتصاد في ذات الوقت الذي تنتمي فيه الكثير من دول الإقليم إلي فئة الدول الأقل نموا والدول المعتمدة علي المعونة الخارجية, وهي تلك الدول التي تتجاوز المعونات الاقتصادية الخارجية فيها10% من الناتج المحلي الإجمالي. واللافت أن غالبية دول حوض النيل تنتمي للدول الأقل نموا, فيما عدا مصر وكينيا, كما تتسم معظمها كذلك بالاعتمادية علي المعونة الأجنبية. ويتراوح نصيب الفرد من المعونة الإنمائية في أوغندا, السودان, رواندا, بوروندي, تنزانيا حول50 دولارا, بينما يزيد علي25 دولارا في بقية دول الحوض بخلاف مصر وفقا لتقرير البنك الدولي حول مؤشرات التنمية الأفريقية لعام2009 وعلي سبيل المقارنة تصل تلك النسبة في مصر إلي نحو10 دولارات. ومن ثم, فالتطورات الاقتصادية وحدها تقصر عن تفسير موجة الثقة التي تميز العلاقات الأفريقية بالعالم بمعزل عن التطورات السياسية فيها. فعلي الصعيد السياسي, شهد إقليمجنوب الصحراء تطورات علي مدي العقدين الماضيين ليست أقل من حيث الحجم والدرجة والوضوح, من مثيلتها الاقتصادية. فقد شهدت معظم دول جنوب الصحراء موجة من التحول الديمقراطي وأخذت بأشكال الحكم التعددي, بدرجات متفاوتة من النجاح والاستدامة. وبالرغم من هشاشة التغيير الديمقراطي في الكثير من التجارب الأفريقية, واتجاه موجة المد الديمقراطي فيها نحو الهدوء أو الانحسار أخيرا, إلا أن التحولات الديمقراطية في دول أفريقيا جنوب الصحراء هي الأخري أصبحت متغيرا مهما يعيد صياغة قيادات الكثير من تلك الدول بمجتمعاتها من ناحية وبالمجتمع الدولي من ناحية أخري. وقد لفتت تداعيات الانتخابات الكينية في نهاية عام2007, من تجدد العنف الإثني إلي أن مشكلات القارة الهيكلية لم تختف إلي غير رجعة, وأن الانتقال الديمقراطي فيها لا يمكن اعتباره مستقرا بعد. إلا أنها لفتت كذلك إلي مقدار الاهتمام الدولي بقضية التحول الديمقراطي في الإقليم والرغبة الدولية في ضمان استدامته و حمايته من الانتكاس. وقد حظيت دول حوض النيل بنصيب من الدينامية السياسية التي شهدها الإقليم ككل, ويشير مؤشر فريدوم هاوس- بالرغم من التحفظات التي ترد علي منهجيته والنتائج الاختزالية التي قد يصل إليها- إلي تطور واضح في دول أفريقيا جنوب الصحراء, وخاصة دول شرق القارة, والتي يصنفها باعتبارها حرة جزئيا وذلك مقارنة بمعظم الدول العربية التي يصنفها علي أنها غير حرة. ومن ثم, فإن حاصل التطورات في الإقليم يشير إلي إن دوله أصبحت علي أعتاب مرحلة جديدة تحظي فيها الكثير من قياداتها بشرعية متجددة, علي المستويين الداخلي والخارجي, مشفوعة بالرغبة في إحداث تغيرات كبري علي الصعيد التنموي لاستغلال اللحظة الدولية المواتية. وتطبع هذه الخلفية سلوك الكثير من تلك الدول بثقة أكبر في النفس قد تصل إلي حد اتخاذ مبادرات أو تغييرات كبري, مما يستدعي إعادة تقييم وصياغة أطر التعامل مع القارة وإعادة الدور المصري فيها.