الولاء صفة مرموقة تجسد أرقي صفات الإنسان والتي تميزه عن باقي مخلوقات الله. الولاء لشيء ما يساوي القسم له والتأكيد عليه والالتزام بأصوله والشعور بالمسئولية تجاهه, وقد اختل في بلادنا مفهوم الولاء وانحصر في التبعية لشخص ما. الملك أو الرئيس أو القائد أو لفكر سياسي معين الوطني أو الاشتراكي أو الإسلامي تم هذا رويدا رويدا مع انتشار التغيرات السياسية في العالم العربي في غضون التخلص من الاستعمار خلال القرن الماضي. كان الشعار السائد أيام شبابي هو الولاء لله وللوطن وللملك. تمتع هذا الشعار برنين جعله مقبولا لعامة الناس ولكنه في نظري كان خطأ جسيما من جميع النواحي: أولا: لا يصح أن نجمع الخالق عز وجل مع أرض التي هو خالقها, إضافة إلي الفرد الذي يحكمنا في وقت ما مهما علت مكانة هذا الإنسان. أهم من هذا كله, لم يطلب الله منا أن نكن له الولاء, ولكنه امرنا ان نعبده وحده لا شريك له, وشتان ما بين العبادة والولاء. ثانيا: يتطلب الوطن أكثر بكثير من الولاء وهو الشعور بالانتماء في أحسن وأكمل صوره والعمل علي رفعته دائما. ثالثا: الولاء لأي شخص مهما حسنت صفاته يلغي الفكر في محاسنه ومساوئه, أي أنه يلغي احتمال إصلاح أخطائه. الولاء المطلق لأي فرد يعمي بصيرته ويحد من فعاليته. مع إلغاء المفهوم الصحيح للولاء أصبح كل رئيس عمل ينتظر من العاملين الولاء له شخصيا, هكذا يتلاشي الشعور بالولاء للعمل في كل المهن. من لا ولاء له لمهنته لا يهمه ضياع الوقت في أثناء العمل بالحديث مع الزملاء أو قراءة الجرائد اليومية أو حتي الخروج من العمل للصلاة أو لمتطلبات شخصية. الاخطر من هذا كله هو أن الفرد الذي لا يحترم عمله لا يحترم نفسه. يجب انا بعث الشعور بالولاء للمهنة بين جميع فئات الشعب من أعلاها الي أدناها ومن أغناها إلي أفقرها. نتيجة لوضع الأمة العربية في الوقت الحالي يبحث المفكرون فيما يجب أن نفعل لتغيير الحال الي الأحسن. إنني مقتنع تماما أن بث ولاء الفرد للمهنة يصلح الكثير من أخطاء الماضي ويفسح الطريق الي النجاح الاجتماعي والتقدم الاقتصادي والرقي السياسي. في كل مراحل حياتي من الطفولة الي الشيخوخة, تميز الأفراد في نظري بولائهم لعملهم شمل ذلك أفراد عائلتي وفلاحي العائلة بالقرية والمدرسين في مراحل التعليم المختلفة واساتذة الجامعا,ت كان الوضع كذلك مع زملائي في العمل ومهندسي ناسا وكل من لاحظت من عمال البناء أو موظفي الحكومات أو الوزراء. كل من ارتقي في نظري كان ولاؤه أولا وأخيرا لعمله أو عملها في نفس الوقت كل من سقط من نظري لم يتحل بالولاء للمهنة. بناء علي ذلك فإنني أناشد مثقفي هذه الأمة ان يبحثوا في الموضوع وأن يطلقوا عنان فكرهم في كيفية بث الشعور بالولاء للمهنة علي جميع المستويات وفي نظري هناك ستة أعمدة, لكل منها ركائز مهمة أذكرها كما يلي: * الريادة والقيادة التي تستدعي وضوح الرؤية وفهم الوظيفة والالتزام بالوقت: منذ بزوغ الحضارات الإنسانية, استدعي كل انجاز جماعي متميز قائدا له رؤية يستطيع أن يجسدها لغيره ليؤمنوا بها ويعملوا علي تحقيقها بكل عزم ونشاط ومثابرة, اضافة الي الحكمة في الفك,ر يستدعي هذا فهم متطلبات العمل والحرص علي الخطة الزمنية لإنجاز الرؤية. لنضرب مثلا ببناء أي من أهرام مصر القديمة, استدعي ذلك رؤية خارقة وتحديدا مسبقا لوظائف العاملين والعاملات في شتي المراحل والقيام بكل عمل في وقته علي مدي قرنين من الزمان, كذلك ففي حديث العصر يمكن قول نفس الشيء عن مشروع ابولو لإرسال الإنسان الي القمر وعودته سالما خلال عقد من الزمان. لأننا قد وصلنا حاليا إلي وضع لا نحسد عليه, فان ابتعاث الأمة العربية الي مكانة تليق بها بين باقي الأمم يستدعي من الريادة والقيادة الرشيدة ما لايقل عن متطلبات الطفرات الإنسانية المرموقة المذكورة أعلاه. أول ما تتطلبه هذه الأمور الخارقة هو ولاء كل فرد لمهنته وما يؤول اليه أو اليها من عمل. * الحس الاجتماعي الذي يتطلب إعلاء المصلحة العامة ومساعدة الغير واحترام الآخر: يشعر كل فرد باهمية عمله في كل مجتمع صالح, لانه يري أن في عمله خيرا لنفسه ولعائلته ولذويه وللناس جميعا. يترعرع هذا الشعور عندما يتبين لأفراد المجتمع ان أولي الأمر منهم يعملون للمصلحة العامة بغض النظر عن المصالح الشخصية او مصالح فئات معينة. يثبت هذا في مخيلة الناس عندما تعم مكاسب العمل علي المجتمع دون حصرها علي طبقة أو فئة, ولابد ان تكون المصلحة العامة هي الغرض الاساسي لاي عمل جماعي. عندما يتفشي هذا الشعور الإيجابي بين أفراد المجتمع يتفاني كل منهم في مساعدة الغير. وينتج عن استعداد الفرد لمساعدة الغير في سبيل المصلحة العامة احترام رأي الآخرين. عند ذلك لا ينتظر كل مسئول من العاملين ان يقوموا بالعمل كما يري هو ولكنه يفتح مجال الفكر في كيفية إثراء العمل بمبادرات جميع العاملين. * الشعور بالمسئولية الذي يستدعي العمل الدؤوب والصدق الدائم وحكمة التعامل: يشمل كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته علي كل مسئولية من أكبرها الي أصغرها. كل فرد بأي مجتمع له أو لها دور أو وظيفة ولابد من الشعور بالمسئولية تجاهها, وهذا يتطلب الجهد الدائم في سبيل إنجاز العمل في أحسن صورة. وتتمثل المسئولية تجاه العمل في دعم العاملين وتشجيعهم علي الإبداع. علي سبيل المثال, كان أول رئيس لوكالة ناسا يقول لمديري الإدارات إن وظيفتهم هي تمهيد الطرق لمرءوسيهم ليبدعوا, وقال اذا استطعتم ان تأخذوا من كل من يعمل معكم ما يعتقد أنه قادر عليه فسوف نفشل دون أي شك. أما إذا استطعتم تشجيع كل عامل لإنجاز اكثر مما يعتقد انه قادر علي إنجازه فسوف ننجح ونوصل الإنسان الي القمر. دوام النجاح يستدعي الصدق مع النفس ومع الغير, من يكذب ليخفي خطأ يزيد من عمق حفرة الفشل. الصدق مع النفس ومع الغير يريح من فكر الإنسان ويؤهل النجاح في كل شيء مثلا: التاجر الذي يسعي لحسن اختيار مبيعاته ولا يغالي في أسعارها ويعامل زبائنه بالصدق يتمتع بحب واحترام الناس, وهذا يؤمن استمرار نجاحه واتساع رزقه. كذلك فالصدق مع النفس يجلب الحكمة في التعامل ويؤهل العدل ورفع كلمة الحق. * إثراء العمل الذي يشمل التفاني فيه والدعم المعنوي والشعور بالسعادة: ثبات وتيرة العمل ينتج عنه الاسترخاء الذهني.. لا يصح أن يستمر أي عمل علي حاله, بل يجب أن يتحسن يوما بعد يوم. المصنع الذي ينتج شيئا لا يتغير عاما بعد عام يضمحل ويخسر السباق, لذلك فعلي كل منتج أن يعمل علي إثراء انتاجه علي الدوام ودون كلل.. يستلزم ذلك الفكر الدائم في كيفية إخراج ما هو اجود وأنفع, هذا يعني أن منتج المصنع يجب ان يتطور في مكوناته الفيزيائية أو سعره أو طعمه أو لونه أو شكله أو تغليفه أو أي مواصفات أخري. عندما يعم إحسان الانتاج يشعر العاملون بالسعادة والفخر, لأن أي تحسن يعود عليهم بنفع إما يكون ماديا أو معنويا أو كليهما.. سعادة العاملين في حد ذاتها تشجع علي إثراء العمل. يتطلب ذلك أيضا الاهتمام بالدعم المعنوي من أولي الأمر والاحتفاء بكل نجاح أو تجديد مهما كان صغيرا وتبجيل كل فكرة موفقة علي الملأ لحث كل العاملين علي إثراء الإنتاج. * الارتقاء بالجهد الذي يلزمه دوام ازدياد المعرفة والثقة بالنفس والشجاعة الأدبية: أول ما أمرنا به الخالق عز وجل هو اقرأ كل من يقرأ يترعرع فكره ويزداد علمه وإيمانه. نحن اليوم في حاجة شديدة لازدياد المعرفة أكثر من أي وقت مضي في تاريخ أمتنا. عندما نقارن أنفسنا بباقي الخلق في العالم نجد أن نصيبنا من العلم والمعرفة قد انحسر الي درجة خطيرة. كل فرد في الدول التي تقدمت يقرأ ما لا يقل عن20 كتابا في العام الواحد. أما في العالم العربي, فان كان80 شخصا يقرأون كتابا واحدا كل عام, هذا يدل علي أننا قد نسينا مقولة المتنبي خير جليس في الأنام كتاب أما عن الكتب المترجمة الي العربية فوضعها اسوأ, فقد ذكر الباحثون في هذا الوضع ان حصيلة الكتب التي ترجمت الي العربية منذ عصر الخليفة المأمون صاحب بيت الحكمة في بغداد10.000 وهو ما يساوي ما تترجمه اسبانيا في سنة واحدة, معني هذا أن أمة اقرأ لا تقرأ! علينا أن نصحح هذا الوضع, لأن جمع المعرفة هو صمام الأمان للرقاء والأمن.. من يحصل علي علم تزداد ثقته بنفسه, والثقة بالنفس تجلب احترام الآخرين للفرد. هذا الاحترام بدوره يحث علي الارتقاء بالجهد, لانه يغرس الشجاعة الادبية التي تحث الإنسان علي عرض رؤيته أو رؤيتها. يتم ذلك عندما يكون الرأي مبنيا علي علم ومعرفة, وليس رأيا شاذا ليس له قوام. عندما تعمل أي مجموعة علي الارتقاء بالجهد يرقي أفرادها جميعا وينصلح حالهم, وهذا يصب في صلب المصلحة العامة. * رفعة المهنة التي تتطلب التنافس المجدي والإضافة الدائمة والمثابرة للحق: علي كل صاحب مهنة أن يعمل بلا كلل علي رفعة شأنها وشأن العاملين بها. يتأتي ذلك مع دوام إثبات خيرها بالواقع الملموس. الشعور بدور الفرد في رفعة المهنة مهما كان قدره ضئيلا يسعده وتعم السعادة علي كل العاملين فيها. يلزم لذلك التنافس الحر الشريف بين أفراد المهنة, فمثلا عامل النظافة الذي لا يترك أثرا لأي خلل ويزيل ما يسبب الازعاج للآخرين يحث زملاءه علي رفعة المهنة. الباحث العلمي الذي يعمل علي رفعة مهنته لا يقتبس من الآخرين ويضيف إلي العلم والمعرفة قدرا مهما. الصحفي الذي يكتب عن خبر أو موضوع لابد أن يتقصي الحقائق وأن يعرضها في صورة صحيحة كاملة, وتستدعي رفعة المهنة أيضا إعلاء صوت الحق مهما كانت العواقب, فعلي القاضي أو المحامي إعلاء الحق وعلي كل صاحب حق أن يثابر في إعلانه مهما طال الزمان أوكثرت العقبات. يدل ما سبق علي اهمية جميع المهن في رفعة الوطن, ولكل فرد علي أي مستوي دور في رقاء المجتمع. لابد أن نثبت هذا الشعور في الجيل الصاعد. أول وأهم ما يجب التذكرة به هو أهمية العلم والمعرفة في حد ذاتها وليس فقط لاجتياز الامتحانات. صحيح العلم هو ما يحث النفس علي الولاء لما تفعل من عمل مهما كان صغيرا أو كبيرا. كل من أضاف شيئا مميزا للمجتمع له أو لها ولاء للمهنة وهي اسمي صفات أي فرد. الشعور بالولاء للمهنة ورفعتها يجلب السعادة في النفوس.. علينا أن نغرس هذا الشعور في أبناء وبنات مصر المستقبل, حتي نحقق عودة الابتسامة إلي وجه كل مصري ومصرية.