الأتراك يشعرون بالفخر لتربع بلادهم علي العرش الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط في عام2009, علي حد قولهم, بعد أن وجدت أنقرة نفسها في أفضل موقع منذ تأسيس الجمهورية عام1923. تلك الانجازات تحققت من خلال مجهودات فارقة بذلتها في المنطقة, إضافة الي تصفية مشكلاتها مع الجيران والقوي الأخري في العالم باتباعها سياسات صفر المشاكل مع جيرانها, إلا أن عام2010 ينذر بتهديد هذه المكانة لأسباب تتعلق بالداخل وفي مقدمتها حساسيات المسألة الكردية والصراع المحتدم بين مؤسسات الدولة, ممثلا في الحكومة ذات الجذور الإسلامية والجيش حامي الدستور العلماني. فقبل أن يطوي عام2009 أوراقه شهدت الساحة السياسية التركية واحدا من أهم التطورات النوعية في مجري الصراع بين الحكومة والجيش, بعد أن ألقت أجهزة الأمن التركية القبض علي ضابطين بالجيش وهما يقومان بمراقبة ورصد بولنت أرينج نائب رئيس الوزراء وأبرز أعضاء حزب العدالة الحاكم, أحدهما العقيد يلماظ والآخر الرائد إبراهيم وأنهما يتبعان لوحدة عمليات التعبئة والاستنفار التابعة لقيادة القوات الخاصة التركية. وعلي خلفية ما سبق دخل رجال الأمن والمحققون الي غرف نوم الجيش, حيث أرشيف القوات الخاصة وغرفة العمليات الخاصة المعروفة في تركيا باسم سفربرلك التي تعد أكثر أقسام الجيش حصانة وسرية وحماية حيث لم يسبق لأي مسئول مدني أن دخلها, وكما هو معروف فالجيش يتمتع بمكانة خاصة جدا لا منافس لها في قلب الدولة بما أنه هو من أسس جمهورية تركيا الحديثة, وهي مكانة مميزة لدرجة أنها كانت دوما تتفوق وتتغلب علي كل القواعد والقوانين ونظم البرلمان وحتي الأنظمة المتعددة للأحزاب في البلاد. وبطبيعة الحال أدت هذه الواقعة الي تجدد الصراع بين الحكومة والجيش, فالأخير كان يحظي داخل الدولة بحصانة مطلقة وغير قابلة للنقاش, وبحكم مكانته الخاصة كان يتمتع بكل أنواع الحقوق لدرجة أن تصريحات رؤساء هيئة الأركان فيما يتعلق بالشأن السياسي كانت تؤخذ بعين الاعتبار, وأهم بكثير من تصريحات رؤساء الدولة وحكومات أنقرة المتتابعة, وما كان من رؤساء الحكومات السابقين إلا أن يتقبلوا هذا الوضع لأن كل ما كان يهمهم فقط هو أن يظهروا في صورة السلطة. غير أن حكومة أردوغان ذات الجذور الإسلامية منذ وصولها الي سدة الحكم في عام2002 بدأت باتفاق مع الاتحاد الأوروبي في تقليص سطوة الجيش في الشأن السياسي للبلاد, ويكفي للاستدلال علي ذلك النظر بعين الاعتبار الي تشكيل مجلس الأمن القومي التركي اليوم مقارنة بالأمس القريب, اضافة الي مثول عناصر المؤسسة العسكرية لأول مرة أمام القضاء المدني, وأخيرا وليس آخرا دخول مسئول مدني الي غرف العمليات الخاصة للجيش التركي لتفتيشها وهي القلب السري للجيش وقدس الأقداس فيه والعقل المسئول عن جميع الخطط التي يتم تنفيذها في حالات الطواريء والظروف الخاصة. وكانت أول مرة تفطن فيها تركيا الي وجود مثل هذه الغرفة داخل الدولة في عهد رئاسة وزراء بولنت أجاويد, كما أشار الكاتب الصحفي ناظم ألمان في مقال له بعنوان التاريخ الأسود للقوات الحربية الخاصة نشر في موقع انترنت خبر الي أن رئيس الوزراء نفسه بولنت اجاويد لم يكن علي علم بأمر هذه الغرفة وقوله اذا اعتبرنا أن جهل الشعب بهذه الغرفة, السرية كان أمرا مفهوما يسهل شرحه إلا أن جهل رئيس وزراء هذا البلد بمثل هذه الغرفة الموجودة داخل بنية الدولة هو أمر لايمكن أن نفهمه ولا نستوعبه. واستطرد الكاتب قائلا إن رئيس الوزراء أجاويد علم بأمر هذه الغرفة بعد عام1974, وبالتحديد عندما قطعت حليفة تركيا الولاياتالمتحدةالأمريكية عنها كل أنواع المساعدات والهبات والقروض والأسلحة بسبب حرب أنقرة علي قبرص, فجاء رئيس هيئة الأركان التركية آنذاك سميح صانجار ليطلب من بولنت أجاويد تأمين مساعدات مالية لهذه الغرفة الخاصة من الميزانية السرية للدولة, فما كان من رئيس الوزراء إلا أن سأله باستغراب شديد: ماذا تقصد بغرفة العمليات الخاصة, فعلي حد علمي لا توجد أي مؤسسة في الدولة تحت هذا الاسم؟ وعندها اضطر رئيس الأركان مكرها للتوضيح قائلا إن غرفة القوات الخاصة هي عبارة عن حركة مقاومة تشمل مدنيين وعسكريين من محبي هذا الوطن وفي حال تعرض الدولة لحرب أو الاعتداء فانها ستتحرك من تحت الأرض لتشكل وحدات خاصة لمقاومة العدو. وبعد أن علم أجاويد بما كان يجب ألا يعرفه وبدأ الحديث عنه علنا في البرلمان عن وجود دولة العمق مما أخل بسرية الحركة وارتكب ما هو محظور كان عليه أن يدفع الثمن حيث تعرض في عام1977 الي محاولة اغتيال فاشلة في مدينة أزمير بعد استهدافه بصاروخ نجا منها, وكانت المفاجأة عندما جري البحث عن مصدر هذا السلاح الحديث بأنه مسجل باسم غرفة العمليات الخاصة المعروفة باسم غرفة الأسرار بالجيش. ومهما يكن من أمر غرفة الأسرار التابعة للجيش التركي, إلا أن دخولها وتفتيشها علي يد المدنيين كان أمرا غير مفهوم منذ سنوات قليلة وتركيا الحديثة التي يعد فيها كل ما يتعلق بالجيش حصنا ممنوعا علي المدنيين حتي أنهم كانوا يمثلون القضاء أو الشرطة أو البرلمان, الأمر الذي ساعد الجيش في الاطاحة ب4 حكومات سابقة منذ عام1990, ويشير بوضوح الي أن عام2010 سيحدد ملامح سيناريو الصراع العسكري المدني في تركيا ويفرض سؤالا جوهريا وهو: هل من مشهد دراماتيكي قادم في البلاد؟ وما هو تأثير هذا الصراع علي المكاسب الإقليمية التي حققتها تركيا في العام الماضي؟ وباختصار, فإن جميع الشواهد تشير الي أن ما حققته تركيا من مكاسب علي الصعيد الاقليمي سيتراجع لأنها ستنشغل بالصراعات الداخلية المعروفة باسم صراع مؤسسات الدولة في الحرب المشتعلة بين الحكومة والجيش ولمن تكون السيطرة علي الآخر, خاصة أن جميع التسريبات تقول إن خطط اغتيال نائب رئيس الوزراء بولنت ارينج هي جزء من مخطط كبير يهدف الي الاطاحة بكامل النظام السياسي التركي وتندرج ضمن هذا المخطط الكبير شبكة أرغنيكون وهي أمور في مجملها أدت الي حدوث حالة استقطاب متزايدة داخل مجلس الأمن القومي التركي بسبب وقوف وزير الداخلية وقادة الشرطة وأجهزة الأمن مع حكومة أردوغان. في المقابل أصبح الجيش يقف وحده, إضافة الي تزايد مشاعر ضباط وجنود الجيش التركي بأن قيام الشرطة التركية بتفتيش القيادات العسكرية يشكل إهانة لهم مما أدي الي حدوث ما يشبه حالة الكراهية بين الجيش والشرطة. ومع تصاعد حالة التوترات الساخنة بين الجناحين السياسي والعسكري, فإن تقديم أردوغان, لأي تنازلات لصالح الجيش سيكون ثمنها الإضرار بموقف تركيا الي الاتحاد الأوروبي, وفي حالة حدوث هذه الاضرار فإن حزب العدالة الحاكم سيواجه المزيد من الخسارة في أوساط الرأي العام التركي الداعم له, وهي خسارة سوف يكون ثمنها الاطاحة بحزب العدالة الحاكم في الانتخابات العامة القادمة إن أتاح له العسكر فرص البقاء الي حين موعد الانتخابات البرلمانية في عام2011. أضف الي ما سبق الأزمة الكردية التي اشتعلت جذوتها مجددا إثر قرار محكمة الدستور بحظر حزب المجتمع الديمقراطي الكردي وكلها أمور ستؤثر بالسلب علي عرش تركيا الإقليمي.