كثيرون كانوا يعتقدون أن تركيز الخطاب الرئاسي والحكومي في مصر علي الاستقرار السياسي ليس أكثر من ذريعة للتهرب من استحقاقات الاصلاح الديمقراطي, أو تأخيره الي أبعد مدي ممكن, وكثيرون أيضا ومن بينهم كاتب هذه السطور- كانوا يعتقدون أن إيقاع الإصلاح السياسي في بلدنا أبطأ من اللازم. تعريف اللازم هنا هو احتياجات الطبقة الوسطي, ونخبتها القائدة, ظنا بأن اتساع تلك الطبقة, والتجارب الذاتية للنخبة المصرية, والخبرات المتوافرة لهذه النخبة من تجارب الآخرين.. كل ذلك أدي أو سوف يؤدي في وقت قصير الي شفاء الأمراض المزمنة في حياتنا السياسية, وبالتالي تأهيل الطبقة الوسطي ونخبتها القائدة للمشاركة السياسية السلمية الفعالة دون أخطار كبيرة علي الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية. ولكن ما حدث في الأسبوعين الأخيرين يؤكد- بكل أسف وحسرة- أن أمراض النخبة السياسية المصرية المزمنة لم تشف, بل لم تقل حدتها, وأكثر من ذلك لا أمل في شفائها قريبا, وأن القول بالحاجة الدائمة الي الاستقرار ليس مجرد ذريعة, ولكن قلق مشروع من مخاطر حقيقية. منذ فترة طويلة اتفق علي أن الأحزاب الرسمية المعارضة أضعف من أن تقود تيارا منظما لدفع التطور الديمقراطي علي أساس المشاركة, ومحاسبة السلطة, وتركز رهان الضاغطين من أجل التغيير من خارج السلطة علي الجماعات والجمعيات غير الرسمية, بدءا من الإخوان المسلمين- بعد ترشيدهم سياسيا- وانتهاء بقيادة الدكتور محمد البرادعي للجمعية الوطنية من أجل التغيير, ولكن الإخوان فشلوا في الاستجابة لاستحقاقات الترشيد السياسي من حيث الشروط الديمقراطية وشروط الوحدة الوطنية والأمن القومي, وعادوا الي المربع الأول في الفكر السياسي, ولكن هذه المرة دون إقرار لمبدأ استخدام العنف, أما الآخرون فسرعان ما تناحروا- ولا أقول- اختلفوا فقط لأسباب بالغة الضعف, وهم جالسون في صالوناتهم لايزالون. نعم الاختلاف وارد, بل إنه واجب في العمل السياسي, ولكن شرط أن يكون الاختلاف حول قضايا أو قضية, وأن تكون هناك آلية ديمقراطية مقررة سلفا لتسويته علي أساس تفاوضي بمشاركة منظمة ديمقراطيا للأغلبية.. فهل هذا هو ما حدث في صفوف الجمعية الوطنية للتغيير, وبينها وبين الجمعيات الأخري القريبة منها..؟ ما حدث هو تناحر بمعني الكلمة لأسباب شخصية, أو لاسباب أخري غير واضحة تماما.. أما ما قيل تفسيرا لهذا التناحر أملا في استعادة ثقة الرأي العام فكان أقرب الي الاعتذار منه الي الاقناع, مع الكشف عن أن مواقف كل الأطراف لم تكن واضحة لبعضها البعض منذ البداية, خصوصا مواقف وخطط الدكتور البرادعي نفسه, ودعك من الأساليب التي استعادها آخرون من أزمان المراهقة السياسية اليسارية والبعثية.. وكنا نظن أنها ماتت وشبعت موتا. إن الآفة الفتاكة في الحياة السياسية المصرية منذ بدايات الحكم الدستوري هي نقص أو انعدام ثقافة وتقاليد التنظيم السياسي الحديث, أي التنظيم القائم علي التسويات الديمقراطية التفاوضية, سواء كان هذا التنظيم يمينيا مثل الإخوان المسلمين او وسطيا مثل حزب الوفد القديم, أو يمينيا مثل الأحرار الدستوريين قديما أيضا, ولعل العارفين بتاريخ مصر السياسي يتفقون معي في أن جميع الانشقاقات والانشطارات التي وقعت في أحزاب ما قبل الثورة كانت كلها تعبيرا عن هذا المرض باستثناء انشقاق الاحرار الدستوريين الأول عن حزب الوفد في غضون ثورة1919, فقد كان الانقسام هنا بين معتدلين بقيادة عدلي يكن وعبد الخالق ثروت وعبد العزيز فهمي, وبين متطرفين بقيادة سعد زغلول.. وكان المعيار الفاصل بين الاعتدال والتطرف هنا واضحا من الناحية السياسية, فالاعتدال كان يعني التفاهم مع الاحتلال البريطاني علي الاستقلال تدريجيا, أما التطرف فقد كان يعني الاستقلال التام الناجز العاجل, ولكن كل ما تلا ذلك من انشقاقات وانشطارات في حزب الوفد صاحب الأغلبية وممثل الأمة فقد كان إما تمردا كما حدث من جماعة السبعة ونصف, ثم من جانب السعديين أو نتيجة مؤامرة من القصر كما حدث في حالة مكرم عبيد, ثم في حالة نجيب الهلالي, ولم يحفظ للوفد قوته وبقاءه في كل تلك الأزمات سوي التأييد الشعبي الكاسح لزعيميه سعد والنحاس وهو ما مكن هذين الزعيمين التاريخيين من حفظ وحدة أغلبية الوفدين وراءهما. لكن ذلك لم يمنع من تفشي ظاهرة عدم استقرار الحكومات. لعل قوة زعامة سعد والنحاس كضامن لبقاء الوفد القديم بدون إعمال مباديء التسوية التفاوضية الديمقراطية للخلافات بين الأجنحة, هي مايساعدنا في فهم نجاة الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في مصر حاليا من ظاهرة التناحر والتمرد والمؤامرات, وغياب ثقافة التنظيم السياسي الحديث عند الجميع, فمن الواضح تماما أن رئاسة الرئيس حسني مبارك لهذا الحزب بمكانته وسلطته هي الضامن الأساسي لاستقراره ووحدته.. علي الأقل فيما يراه الناظرون, أليس ذلك تفسيرا كافيا لظاهرة ضعف كل تلك الجمعيات من الناحية الجماهيرية؟ أوليس ذلك دليلا كافيا علي جدية المخاوف من الفوضي في حالة نزع ضمانات الاستقرار الحالية المستمدة من سلطة الدولة؟! ثم ألا يثبت تناحر الجالسين في الصالونات أن ما ينقص مصر حقا لكي تتحول الي ديمقراطية آمنة ليس هو الأفكار ولكن تنقصها وسائل التنظيم والتحريك السلمية والديمقراطية؟ أعترف بأن استمرار فاعلية هذه الآفة التي نتحدث عنها في حياتنا السياسية يدعم الرأي السائد لدي الجناح الاصلاحي في الحزب الوطني الديمقراطي, والذي يقول إن التغيير والاصلاح في مصر لن يأتي إلا من داخل النظام الحاكم نفسه.. فهكذا كانت مصر, وهكذا ستكون كما يقولون, حتي يثبت العكس, أو يثبت شعاع الضوء الذي بعثه التغيير السلمي الديمقراطي الأخير في حزب الوفد الجديد أنه أول الغيث. ومع ذلك, فهذا لايعفي الحزب الوطني من مسئولية دفع التطور الديمقراطي, باعتبار أن99% من أوراق اللعبة لاتزال بيديه, ولتكن البداية هي تفعيل وسائل الرقابة والمحاسبة للأداء الحكومي, بعد توفير الشروط الممكنة لمجيء برلمان ذي مصداقية انتخابية في العام المقبل. المزيد من مقالات عبدالعظيم حماد