ينشغل المصريون حاليا علي جميع مستوياتهم بالضباب الذي يخافه الجميع من احتمال بل توقع انخفاض كمية المياه التي ينقلها الينا مجري نهر النيل عما تعودنا استقباله علي مدي سنوات طويلة منذ اتفاقية تقسيم مياه النيل التي لم تعد تكفي ضرورياتنا المائية ناهيك عن احلامنا وتوسعاتنا المستقبلية مع استمرار زيادة السكان والحاجة الي المزيد من التنمية التي تعتمد اعتمادا كبيرا علي المزيد من التدفقات المائية. ويتساءل البعض اين كنا نحن من افريقيا وبالذات في دول حوض وادي النيل خلال السنوات الاربعين الماضية ولماذا تركنا المجال سهلا لمؤامرات المتآمرين علي مصر يوقظون التطلعات التنموية في حكومات وشعوب دول المنبع علي حساب مصر والسودان وبالذات مصر. وقد دعيت لابداء الرأي كيف نعيد مرة أخري التعمق الاستراتيجي لمصر في افريقيا وبصفة خاصة في دول المنبع كشاهد عيان بصفتي رئيس شركة النصر للتصدير والاستيراد التي شهد الجميع بنجاحها المميز في تحقيق العمق الاستراتيجي لمصر باحسن صورة في غرب ووسط وشرق افريقيا في الستينيات. وللافادة لم تمنع الحكومة شركة النصر والاستيراد ولكنها الظروف هي التي فرضت انكماش دور شركة النصر للتصدير والاستيراد في افريقيا ولذلك قصة جاء الوقت للاعلام عنها. في أوائل السبعينيات تم قبول استقالتي من رئاسة شركة النصر للتصدير والاستيراد التي لم تقدمها ولم يكن قبول الاستقالة التي لم تقدم لتقاعسي في الأداء أو لمخالفات تستوجب العقاب, ويؤكد ذلك ان الرئيس انور السادات قرر بعد ذلك منحي أقصي معاش استثنائي وأعلي أوسمة الدولة وأشاد بي وشركة النصر للتصدير والاستيراد كل الإشادة في كل المجالات. ولكن في يقيني ان هذا الاجراء كان بداية النهاية لعصر بسياساته وافكاره ورجالاته وبداية البداية لعصر جديد بمفاهيم جديدة وفلسفة جديدة وقد يكون هذا شيئا مألوفا في كل الدول وعلي مر كل العصور. كان للرئيس جمال عبد الناصر فلسفته وسياساته متطلعا الي آفاق عزة متناهية الطموح لمصر مستعينا في ذلك بصدامات لها صدي دولي واقليمي ومحلي يجعل مصر يحسب لها الف حساب أكثر هذه الصامات حققت اهدافها وقلة من هذه الصدامات لم تحقق المرجو لها من نجاح... وجاء بعده الرئيس أنور السادات بسياسة مغايرة تماما لسياسة الرئيس عبد الناصر.. أعلن الرئيس انور السادات أن99,5% من اي حل تملكه الولاياتالمتحدةالامريكية, واكتسب الي حد ما صداقة الولاياتالمتحدةالامريكية والغرب فعادته الدول العربية وقطعت علاقاتها مع مصر وابتعدت الدول الاسلامية عن مصر وتجاهلت الدول الافريقية مصر وتجاهلتها مصر ثم جاء الرئيس محمد حسني مبارك بسياسة ثالثة مخالفة كل الاختلاف لسياسة سابقيه واتبع سياسة هادئة ومهادنة لا يتدخل في شئون الدول الاخري مهما كانت الظروف ولا يتخطي حدود مصر ولا مجال ابدا للصدامات مهما تكن نتائجها ايجابية او سلبية. وكل هذه السياسات بلا شك لها ايجابياتها ولها سلبياتها, ثم لاشبهة ان كل زعيم منهم لم يهدف بسياسته لا مصلحة مصر كما يراها في فلسفته, كما لا يمكن انكار تأثير التوازن الدولي بصراعاته المختلفة ومصالحه المتعارضة وارتفاع وانخفاض المعدلات والمعادلات الدولية من وقت لآخر. كان لابد من هذه المقدمة الطويلة لنفهم موضوعنا بعمق مصر... والعمق الإستراتيجي في افريقيا. ففي عهد عبد الناصر كان لمصر عمق قوي جدا جدا في دول افريقيا الاستوائية وقد اعتمد عبد الناصر في ايجاد هذا العمق وتدعيمه علي أربعة محاور: المحور الاول: الرئيس عبد الناصر شخصيا بتأييده القوي لعناصر القوي التحررية في افريقيا في حربها للاستعمار قبل الاستقلال أملا في الحصول علي الاستقلال وتعرض في سبيل ذلك لكثير من المتاعب مع القوي الاستعمارية العالمية. ولما استقلت البلاد الافريقية وتولي المتحررون المحاربون للاستقلال القيادة الافريقية لبلادهم كان دائم اللقاء مع القيادات الافريقية الجديدة مساعدا لهم بحرارة في المحافل الدولية وفي المساعدة الايجابية من مصر وغير مصر في كل مجالات البلاد الافريقية المستقلة حديثا. المحور الثاني: انشء في عهده في رئاسة الجمهورية مكتب خاص للشئون الافريقية واختير لقيادته محمد فايق شاب يملؤه الحماس لخدمة افريقيا مستمدا التوجيه المباشر من رئيس الجمهورية شخصيا وكان لهذا المكتب ولقائد هذا المكتب النجاح المشهود في دعم الحركات التحررية الافريقية قبل الاستقلال ثم عمل كمحام نشيط ايجابي لافريقيا في كل المجالات في مصر, المحور الثالث شركة النصر للتصدير والاستيراد: لم تكن شركة عادية ولعل الأكثر صدقا أن العاملين فيها لم يكونوا عاملين عاديين بل كانوا فرسانا مؤمنين كل الإيمان بوطنهم معتزين كل الاعتزاز بشركتهم, اصحاب رسالة تفانوا في خدمتها. ورسالتهم كانت تحقيق الوجود الاستراتيجي الناجح والناجح جدا لمصر في غرب ووسط وشرق افريقيا.( للأسف لم يكن لها نشاط في منطقة القرن الإفريقي الحبشة والصومال حيث كانت هذه المنطقة مسئولية شركة تجارية حكومية آخري) كان وجودا مكثفا سخيا, خمسة وعشرون فرعا في خمس وعشرين دولة, تشغل الحزام الاستوائي الافريقي يخدمهم11 باخرة, اجمالي حمولاتها47 ألف طن تحمل سنويا215000 طن حمولة كاملة جيئة وذهابا بين شرق وغرب افريقيا ومصر ومواني جنوب أوروبا.. تعرضوا لصعاب قاسية تغلبوا عليها بعزيمتهم وايمانهم برسالتهم.. قدموا لافريقيا الكثير وقدموا لمصر الكثير. عملت بعض الفروع ماتعمله في أي دولة وزارة التجارة الخارجية.. فتحت لمنتجاتهم الأسواق الخارجية لصالح منتجيهم الأفارقة ولصالح بلدهم والتي كانت حكرا علي المستعمرين ولصالح المستعمرين.. حلت مؤقتا محل الكوادر الادارية التي حرمها عليهم المستعمرون حتي تسلمها منهم الأفارقة بعد إعدادهم وأسهمت في هذا الاعداد في افريقيا وفي مصر.. وضعوا أنفسهم في خدمة المجتمع الافريقي بإخلاص فأحبهم وتجاوب معهم. المحور الرابع: جميع أجهزة الدولة المصرية وبصفة خاصة الدبلوماسية المصرية والتمثيل التجاري المصري وجميع الاجهزة الحكومية وكذلك رجال الاعمال المنتجون تصديرا واستيرادا. والآن ما هو المطلوب؟ الوقت لم يضع وفي رأيي ان الوقت لصاحب العزيمة والاصرار علي النجاح لا يضيع أبدا قد تختلف الوسائل, فقد انتهي عهد شركة النصر للتصدير والاستيراد ليحل محلها كل شركات وهيئات ومصالح مصر, ولكن سيظل المفتاح السحري هو الإعلام الواضح عن الاهتمام الشديد المباشر للمؤسسة الرئاسية بأهمية العمق الاستراتيجي لمصر في افريقيا وبصفة خاصة منطقة منابع النيل. يومها سيتسارع الجميع لتحقيق الفكر الرئاسي بتعليمات وبدون تعليمات. ولتكن الفلسفة لضمان تدفق مياه النيل من منابعه هي العلاقة الأبدية المتينة جدا جدا بين مصر ودول وشعوب وحكومات منابع النيل وليس هذا أمرا صعبا لو أخلصنا النية في حتمية الوجود الايجابي المصري المرحب به من دول منابع النيل.. فنحاول بكل السبل الكريمة اكتساب المحبة والاخوة الصادقة لإخواننا الافارقة خصوصا افارقة حوض وادي النيل.. فلنمد هذه الدول بكل ما نستطيعه من خبراتنا وخبرائنا ومن تجاربنا وامكانياتنا دون تعال.. فليذهب الي هناك رجال اعمالنا للاستثمار المشارك معهم لصالحنا وصالحهم.. ولنفتح اسواقنا لمستثمريهم مهما يكن حجم استثماراتهم ولنكثر من المنح الدراسية لشبابهم في مدارسنا وجامعاتنا فلنساند بعضنا البعض في كل المجالات الدولية. ولعل قمة مساعدات التآخي بيننا ان تفكر حكوماتنا جادة في تشجيع ومشاركة حكومات منابع النيل في مشاريع زيادة الاستفادة من مصادر المياه في بلاد منابع النيل.. وليكن ذلك علي أسس مشاركة للطرفين.. لماذا لا نساهم تقنيا وحتي ماليا في مثل هذه المشاريع قد يستغرق ذلك بعض الوقت وحتما لابد أن يمر بعض الوقت لتنال محبة وتقدير من نجح العدو في دق اسفين شديد بيننا, ولكن أؤكد أن هذا الوقت أقل وأجدي من ذلك من الوقت الضائع في محاولة ان تحكمنا معهم اتفاقات لا ترتكز علي محبة وتقدير ومصالح متبادلة يسوسها الحب والمصالح المشتركة.ولنتذكر مثالا واضحا كل الوضوح يؤكد صحة هذا الاتجاه. بعد هزيمة1967 قطعت كل دول شرق وغرب افريقيا علاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع اسرائيل برغم أن بعض هذه الدول وبصفة خاصة قياداتها علي علاقة قوية جدا مع اسرائيل بدعم واضح من امريكا وبرغم هذا خضع هؤلاء القادة وخضعت هذه الدول لضغط شعوبها التي ارتبطت عاطفيا واستراتيجيا بمصر في الستينيات. يقولون إن التاريخ يكرر نفسه. ولنحاول ان نكرر التاريخ ونحارب النفوذ المعادي لمصر في دول منبع نهر النيل بالتغلب عليهم عاطفيا واستراتيجيا مع شعوب وحكومات وقادة دول منابع النيل ولعل ما يساعد علي ذلك ماعرف عن الرئيس حسني مبارك من قدرته علي اكتساب صدقات الدول وقادتها. وهذا هو قدرنا وهو مستقبل نمائنا. مؤسس شركة النصر للتصدير والاستيراد ورئيس مجلس إدارتها في الستينيات