توحدت سياسيا بلدان أوروبا برغم الفوارق التاريخية والمذهبية والثقافية وانتهت الحرب الباردة, وبدا واضحا ونحن علي عتبة القرن الجديد أن الحروب وجدت ميدانها وسوقها في صدام الثقافات, وكأن العنف والعداء سمة من سمات المجتمع الانساني ومسيرة تاريخه, فالثقافة هي رسالة العقل وثمرة اجتهاده, فكلمة ثقافة باللغة الفرنسية(Culture) من أصل لاتيني(Cultura) مصدرها أو معناها فلح أو زرع, أو من يفلح عقله كما يفلح عقله, وكلما اجتهد الزارع في العناية بحقله وزرعه, أنتج وأثمر, تماما كمن يفلح ويزرع في عقله, ليمتلك ثمرا طيبا كثيرا, ويمكن القول أن هناك ثقافة فردية أو شخصية ونقول هذا الانسان مثقف أي يلم من كل علم بطرف كما يقول العرب, وهناك ثقافة المجتمع وبينهما علاقة وثيقة, فإذا كثر عدد المثقفين الأفراد تعمقت ثقافة المجتمع, وكما أن الثقافة تربط بين الأفراد في مجتمع واحد, فهي تربط بين المثقفين علي مستوي الانسانية جمعاء, والرابط الأساسي في الثقافات هو السمة الأنسانية, أي أن الفرد المثقف, أو المجتمع المثقف يتميز بانحيازه إلي الانسان والانسانية, وتغلب طبيعته الانسانية علي الطبيعة الغرائزية الكامنة في نسيج كيان الانسان, أو قل أن الانسان إذا تعمقت ثقافته واتسعت مداركه, وألم بالعلوم والفنون والآداب وتذوق خبرات الشعوب ارتقت إنسانيته وتسامي سلوكه وسيطر علي غرائزه, وبعدت الهوة بينه وبين الحيوان, أسير حاجاته بينما الانسان المثقف حر الارادة, والحيوان يخضع لآلية طبيعته دون تفكير أو اختيار, بينما الانسان قادر علي الابداع والتفكير, نعم بعض الحيوان علي ذكاء يلفت النظر وأما ذكاء الانسان متسامي كل السمو حتي إنه يستطيع أن يرتقي إلي درجات عالية من النقاء والصفاء, وله القدرة علي التحليل ويمتلك ذاكرة للماضي وخيالا للمستقبل مما أتاح للبشر القدرة علي السيطرة علي قوانين الطبيعة وتطويرها لصالحهم, ولا ينبغي أن ننسي أن اختراق أسرار الطبيعة وتقدم العلوم حتي صارت التكنولوجيا الحديثة في متناول الانسان في كل مكان هذا الاختراق بدا منذ بداية الانسان ومحاولته فك ألغاز الطبيعة وإحداثها, ذلك كله بفضل نشاط العقول المتوهجة, والثقافات المتبادلة والمتراكمة عند الشعوب وفي مسيرة الحضارات. وتحديد ما هي الثقافة وما هي الحضارة, أمور شغلت أهل الفكر والفلسفة في الغرب منذ القرن الثامن عشر وحتي اليوم مازال الحديث قائما حول ماهية الثقافة وماهية الحضارة, ولعل بداية هذا الحوار الفكري حولهما بدا بالحوار حول الفرق بين طبيعة الانسان وبين طبيعة الحيوان, وطرح السؤال هل هناك ثقافة عند الحيوان بل أشار بعض الفلاسفة إلي أن الفرق بين الانسان وبين الحيوان قريب من الفرق بين الطبيعة الفطرية الغرائزية عند الانسان وبين طبيعته بعد أن يتزود بالثقافة والعلوم والخبرة. وحتي يكون المعني واضحا بلا لبس نقول إن الانسان يشترك مع الحيوان في كثير من الغرائز, غير أن الانسان مخلوق متميز بأبعاده الثلاثة, البعد المادي والغرائزي يشترك في آلياته مع طبيعة الحيوان, الغذاء, والتناسل, مثلا ويسمو بالبعد العقلي والعلمي والفني, كما يسمو بالبعد الايماني والديني, غير أن هذه الأبعاء في حاجة إلي التنمية والصقل والمثابرة بالثقافة حتي لا يظل الإنسان أسيرا في بعده الجسدي أو المادي. من هو الانسان المتحضر؟ إنه الانسان الذي يحرر ذاته من سجن عرقي أو إقليمي لينطلق إلي رحاب الانسانية الشاملة, إن الانسان المتحضر هو الذي لا يعجز عن إدراك وحدة الجنس البشري برغم التنوع والتعدد في الأجناس والأوطان والتقاليد, لا يصعب عليه التعايش في عالم يضج بالاختلاف والأديان وقضايا الاقتصاد, ويدرك أن كل إنسان آخر, هو شبيه له, وأخو له, فالحضارة معناها الخروج من دائرة الاحساس بالعداء والكراهية والاحتقار لكل من يختلف معنا في اللون أو العرق أو الدين فهو قبل ذلك كله الانسان, مخلوق مثلي, أعطي هبة الحياة مثلي, وشريك في جميع الحقوق الانسانية, ولكي نفهم الانسان الآخر يجب أن نتجرد من الاختلافات الموروثة والأحكام المطلقة ونضعه في إطار إنسانيتنا. وحين نوقظ في ذهن ووجدان الفرد هذا الحس الانساني للبشر كافة, فإن الحضارة كفيلة بإقامة علاقات سوية إيجابية بين الأمم والشعوب ويولد منها الأمل في إقامة سلام قوي لبناء مستقبل أفضل. وهذا الفكر لم يأت من فراغ أو قد أخترعه رواد النهضة وفلاسفتها بل له جذور راسخة قوية في تعاليم الأديان بلا أدني شك, فالأديان هي دعوة للتحرر من أنانية الفرد, ومن استعباد الانسان, ومن العزلة عن شعوب الأرض, لقد كان أفلاطون الفيلسوف عبدا بيع في سوق العبيد, لكنه حمل في أعماقه فيلسوفا وحكيما علم الأجيال هذا مثل حتي لا نظن أن هناك إنسانا واحدا يستحق أن يكون عبدا, أو أن يكون مذلا لخلق الله, أنها دعوة إلهية أن يتحرر الانسان ودعوة للمساواة بين البشر في الكرامة والعدل في معاملتهم وليست تلك نعما أو منة من القوي للضعيف أو من الحاكم للمحكوم, إن المتحضر إنسان لا تقوده رغباته أو نزواته ومصالحة الشخصية بل يحيا في احترام لانسانية كل إنسان, وللقانون السائد, وحقوق المجتمع والفرد, وليس معني ذلك ذوبان الفرد وضياع حريته الشخصية كما فعلت الشيوعية, وكما تفعل الحكومات الشمولية, بل الحضارة تقوم قبل كل شيء علي قيمة الانسان, كإنسان قبل أي اعتبار آخر, فالانسان المعوق له حقوقه, والضعيف والمريض له حقوقه, ليست قيمة الانسان بما ينتج وبما يملك, بل قيمته أصلا في ذاته الانسانية, إن تربية الطفل علي حرية التفكير والتعبير واتخاذ القرار البسيط هي تربية علي الحضارة والترقي هذا من جهة ومن جهة أخري يجب أن نربي الانسان علي المصالحة بينه وبين الانسانية جمعاء بمعني أن يتعلم كيف يحترم قوانين الطبيعة وأن يستخدم العقل وأن يحترم كل إنسان بثقافته وتراثه وعقيدته, لكي يصبح عضوا حرا في مجتمعه, وفي عالمه, وأن يتعلم فن التسامح والاعتدال, إن الفردية وحريتها واستقلالها تثري المجتمع كما تنمو وتنضج إذا أدركنا حرية وفردية واستقلال كل إنسان, فالثقافة معرفة وعلوم أما الحضارة فسلوك وأخلاق, نقطة انطلاقها إيمان بوحدة الجنس البشري والمساواة بين أبنائه في الكرامة والحقوق. إن الثقافة ثراء للعقل والوجدان, عنصر من عناصر الحضارة التي هي رؤية إنسانية شاملة للماضي وللحاضر وللمستقبل, تري الانسانية أسرة واحدة, لكل إنسان مكان فيها برغم تنوع الأجناس والثقافات والأديان. المزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته