كرست العقدين الأخيرين من حياتي العملية والمهنية من أجل أن تصبح مصر دولة' طبيعية' مرة أخري, بمعني أن تعود إلي ما عادت إليه الغالبية العظمي من دول العالم, حيث استقرت مجموعة من المبادئ الأساسية في علاقة الدين والدولة, والدولة والمجتمع, والدولة وأقاليمها, والدولة والعالم. وبالطبع لا توجد' روشتة' جاهزة لكل مشكلة, ولا تعرف خطة لا شيء بعدها لكل قضية, ولكن هناك دائما خطوطا عامة باتت مستقرة في إدارة حياة الناس ضاع الكثير منها وسط مخترعات مصرية لا يوجد مثلها في العالم. ومن المدهش أن قادة الرأي في مصر يعرفون كل ذلك, وهم لا يتورعون من حيث المبدأ عن المطالبة بأكثر الأشكال والقوانين والقواعد مثالية, ويبدو حلم الغني المصري ممتدا حتي يصل إلي المثال السويسري, أما حلم الديمقراطية فيمس الأعتاب الإنجليزية. ولكن ما أن تتم اليقظة من الأحلام حتي تأتي المقاومة الشرسة لكل أمر مستجد أو تغيير أو قانون جديد, ويبدأ فورا البحث عن أصحاب' المصلحة' فيما أتي, والتساؤل عن مدي الحاجة لما استجد, ويكون الأمر في النهاية مقاومة شرسة لكل أشكال التغيير حتي لو كانت تلبي ما يطالب به قادة الرأي العام من احترام للقانون, أو تعبئة الموارد المادية أو البشرية للبلاد من أجل تحقيق ما يطالب به الجمع المصري. ويبدو أن وسائل الإعلام الجماهيرية الحديثة قد فرضت بحثا مستمرا عن' الشعبية' وليس اجتهادا أصيلا عن الآراء السديدة, أو حتي تعرضا أصيلا للقضايا المطروحة حيث يمكن' إعلام' الرأي العام بحقائق القضية. ومما يحير أن مثل هذه التقاليد لازالت مستمرة رغم ذيوع المعلومات عن الميزانية المصرية, وتطورات إنفاقها بتقارير ربع سنوية, وحتي بعد أن باتت القوانين تعرض علي مجلسي الشعب والشوري وفي كل مرة يتم عرض حقائقها والاعتراضات الجارية عليها, وأحيانا ترد هذه القوانين للحكومة مرة أخري لكي تضيف وتحذف حسب ما جري من مداولات. ورغم أن ذلك كثيرا ما يكلف زمنا طويلا حيث توجد مؤشرات علي أن الوقت اللازم للتعامل مع قضية ما منذ أن تصبح فكرة حتي تصير قانونا تصل إلي عشرة سنوات تقريبا, فإن ذلك الزمن الطويل من التأمل والتدبر والمناقشات والحوارات والسجالات لا يبدو أنه يؤثر في درجة المعرفة بالموضوع. المثال علي ذلك موضوع الضرائب, وفي برنامج تلفزيوني حواري شهير قالت الزميلة المرموقة لضيفها أن قانون الضرائب يساوي بين الغني والفقير وبصوت مملوء باليقين التام. وحدث ذلك بينما لا يدفع الفقراء ضرائب علي الإطلاق حيث يوجد هناك حد للإعفاء يشمل الرجل وزوجته وأسرته حتي الحد الذي يخرجه من دائرة الفقر. وأكثر من ذاك أن تحديد20% للضريبة كحد أقصي للجميع لا تعني المساواة بين الغني والفقير, لأن من يحصل علي100 مليون جنيه من الدخل سوف يدفع20 مليون جنيه ضرائب, بينما من يحصل علي10 ألاف جنيه سوف يدفع ألفان من الجنيهات, وهناك فارق كبير بين' النسبة' وترجمتها المطلقة, ويتحدد الأمر في النهاية ليس بالمقارنة بين الغني والفقير وإنما بقدرة الدولة علي التحصيل, وتأثير ذلك كله علي عملية التنمية. ولكن المثال هنا هو أننا نفتح من جديد أمورا فتحت ونوقشت بطريقة تبدو كما لو كان علينا مثل الأقدار المحتومة والقضاء النافذ أن نعيد النظر في كل ما ناقشناه من قبل, وبصورة دورية, تجعلنا لا نتحرك خطوة واحدة إلي الأمام حتي ولو كنا لا نكف كل ثانية عن الحديث عن الدول التي تحركت إلي الأمام كل ثانية. الأمر ذاته يحدث مع الضريبة العقارية وكأنه لم يتم صدورها في قانون, كأنه لم تتم مناقشات ولا مداولات ولا تصويت, وهناك تصور لدي الإعلام, أو إذا شئنا الدقة عدد من الصحفيين والإعلاميين, الذين يريدون طوال الوقت أن تبدأ المسائل كلها من أول السطر كل يوم وكأن الحكومة بدأت شيئا جديدا لا أصل له ولا فصل. وبالطبع فإن ذلك ليس فيه دعوة لعدم فتح موضوعات مرة أخري للنقاش, ولكن الدعوة هي أن نبدأ من حيث انتهينا لا من النقطة الأولي, أو تكون الحجة الرئيسية هي أن ذلك هو ما يريده الشعب, أو أن مثل ذلك ليس معروفا من قبل أو في أي من دول العالم الأخري. وبالطبع فإنه بوسع كل صحفي وكل إعلامي العودة إلي الموسوعات لكي يجد' الضريبة العقارية' مسطرة في كل منها, ولمن يجد ذلك صعبا فإن موسوعة' ويكيبديا' الشهيرة علي الإنترنت سوف تخبره بالتعريف أنها ضريبة أملاك أو أنها' الضريبة المفروضة علي أصحاب الممتلكات علي أساس قيمة هذه الممتلكات', وربما لن يندهش إذا علم أن مصر تعد واحدة من أوائل الدول في العالم التي جمعت هذه الضريبة منذ عهد قدماء المصريين. ويقول لنا كتاب' الضريبة العقارية' لمؤلفه محمود جاب الله أبو المجد, وصدر عن مجموعة مصطفي شوقي وشركاه ومجلة الأهرام الاقتصادي الغراء مؤخرا, أن تاريخ هذه الضريبة هو تاريخ مصر الحديثة, بل ربما كان هو ذاته من أهم معالم الحداثة حيث' الضرائب' واحدة من أهم مقومات الدولة. فقد عرفت مصر في العصر الحديث الضريبة العقارية منذ أواخر عهد محمد علي في عام1842, وذلك علي العقارات المبنية بمدينة القاهرة, علاوة علي العقارات التي يقيم فيها الأجانب بمدينة الإسكندرية. وكان تقديرها في ذلك الحين يعادل شهرا سنويا من إيجار المبني, بواقع1:12 من الإيجار السنوي. وفي عام1854 صدر أمر بفرض الضريبة علي تلك العقارات القائمة بمدن الإسكندرية ورشيد ودمياط. وفي عام1867 صدر أمر عال أخر بتطبيق الضريبة علي الأملاك الواقعة بمدينة السويس و'بنادر' الوجهين القبلي والبحري. وأصدرت الدولة العثمانية أمر عال في ذلك الحين, يسمح للأجانب بتملك العقارات داخل مصر, باعتبارها جزءا من الدولة العثمانية, لكن بشرط أساسي وهو دفع الضرائب التي تفرض عليهم, إلا أنهم قاوموا دفعها, حيث ناصرتهم المحاكم المختلطة, والتي كانت تفصل في الدعاوي والمنازعات التي يكون أحد أطرافها أجنبيا, الأمر الذي يعتبر نوعا من الامتياز للأجانب المقيمين في مصر, علي حساب المواطنين المصريين. وعرفت الضريبة العقارية ب' العوائد' في عام1884, لكن الحكومة تعثرت في تحصيلها بانتظام, بسبب استمرار الأجانب في مقاومتها ورفضهم الخضوع لها, مما أضطر الحكومة لإيقاف تنفيذ ذلك الأمر العالي, وعرضته علي مؤتمر لندن في عام1885, وانتهي الأمر إلي موافقة الدول علي دفع رعاياها ضريبة المباني, سواء الواقعة في القاهرة أو البلاد الأخري. ومن ثم, لم تطبق الضريبة العقارية علي الأجانب في مصر إلا في يناير1886. وتم تعديل هذه الضريبة أكثر من مرة, ابتداء من5 فبراير1909, ثم بالقانون رقم89 لعام1937 بعد إلغاء الأحكام السابقة الخاصة بالأجانب, ثم بالقانون رقم56 عام1954, حيث ألغي الأوامر العالية والقوانين السابقة, وقرر أحكاما جديدة لهذه الضريبة بتوسيع دائرة الخضوع لها وبيان الإعفاءات منها, واستبعاد20% من محل الضريبة مقابل المصاريف التي يتحملها الشخص المكلف بأدائها, مع استقرار السعر السابق10%. هذا العرض التاريخي يجعل' المفاجأة' الموجودة في الإعلام وبين عدد من الصحفيين المرموقين فيما يخص الضريبة العقارية لا وجود لها, وتصبح المسألة ليست حق الدولة في فرض الضرائب, وإنما البحث في قضية تمويل التغيير الذي يريده الجميع سواء ما خص التعليم أو الصحة أو الثقافة أو الدفاع أو أيا من مهام الدولة الأخري; ثم بعد ذلك تحديد أولويات الصرف لهذه الأموال. وعندما عرض القانون علي اللجنة البرلمانية للحزب الوطني الديمقراطي, وبعد ذلك علي مجلس الشوري كان الرأي الذي قدمته هو أن تكون حصيلة الضرائب العقارية موجهة نحو المحليات وخاصة للإنفاق علي التعليم أو بنسبة لا تقل عن50% منها. وكان الرأي الذي ساد هو أن تكون النسبة25% فقط استنادا إلي أن هناك تمويلا للمحليات يجري بالفعل من خلال مصادر مالية أخري. وعلي أي الأحوال فإن ما نحن بصدده الآن هو مناقشة تطبيق القانون, وليس القانون ذاته وإلا فقد القانون والمجالس التشريعية الوظيفة الموكله لهم, والكيفية التي ستتم بها استخدام عائد الضريبة في تمويل العجز أو المشروعات الاستثمارية المختلفة. والقائمة من الموضوعات سوف تكون طويلة خاصة بعد أن يكون القانون سبيلا إلي التعرف علي الثروة العقارية المصرية التي يبدو أنها أكبر بكثير مما نتصور, وبشكل من الأشكال فإنها تشير إلي نتيجتين متناقضتين: أولها أن المصريين, والطبقة الوسطي خاصة, علي درجة من الغني والثروة أكثر مما نتخيل ونتصور حتي الآن. وربما كان ذلك هو سر حالة الهياج الإعلامي ضد الضريبة حيث أن الجماعة الإعلامية في العموم توجد ضمن هذه الشريحة الاجتماعية. وثانيهما أن هذه الضريبة غير مستغلة الاستغلال الأمثل بل أن الكثير منها ينطبق عليه المفهوم الاقتصادي لرأس المال الميت الذي يجعل الأغنياء من أصحابه فقراء في الواقع. كل ذلك يحتاج إلي مناقشة أوسع, ومعلومات أكثر, ولكن المؤكد أن قانون الضرائب العقارية لن يوفر موارد مالية للدولة فقط, أو أنه سوف يزيد معرفتنا بالثروة العقارية المصرية فقط, ولكنه وفي المستقبل غير البعيد سوف يحرر السوق العقارية المصرية من قيودها. وتلك قصة أخري علي أية حال.