استطاع الرئيس الأمريكي( باراك أوباما) أن يضع طموحاته السياسية علي أجندة العمل السياسي الواقعي, ونجح في إنجاز قسط قيم منه والأمل ليس مقطوعا في القسط الآخر. فقد استطاع إقرار قانون الرعاية الصحية الجديد بعد أن فشل فيه فطاحل السياسة الأمريكية من قبل ولقي فيه هجوما وتحديا من جماعات المصالح التي ستتضرر مباشرة من القانون, ولم تدخر وسعا في الهجوم علي الرئيس ونعته بالاشتراكية, كأنها سبه, وتجنيد قواهم الإعلامية والتشريعية لإحباط جهود الإدارة لإقراره, حتي انتصر الأمل وهنأ( أوباما) أنصاره في كل مكان مؤكدا شعاره المختصر المفيد.. نعم نستطيع. حرية الإرادة صلب العقيدة البراجماتية الأمريكية أضاف إليها( أوباما) القوة, وبقوة الإرادة الحرة استطاع أن يطرح حلما كونيا لعالم خال من الأسلحة النووية علي مائدة البحث, واستطاع إقناع زعماء47 دولة في المساهمة في تقوية الأمان النووي من خلال خطوات فعلية, والخروج بآلية لمحاربة الإرهاب النووي, بمنع وصول المواد النووية إلي مجموعات إرهابية, مما يعتبر أكبر تحديات الأمن الدولي, وتبني الحاضرون خطة الرئيس الأمريكي بضمان أمن كل المواد النووية الهشة, مما يعتبر أهم إنجازات قمة واشنطن للأمن النووي الأخيرة, والتي دعا فيها( أوباما) زعماء العالم إلي التحرك وليس فقط الحديث عن تأمين المواد النووية, التي قد يستغلها الإرهابيون لتصنيع قنبلة نووية قد تصنع كارثة. وأشار إلي سخرية التاريخ, فمخاطر مواجهة نووية بين الدول اختفت, لكن مخاطر شن هجوم نووي ازدادت, فالشبكات الإرهابية مثل القاعدة حاولت امتلاك سلاح نووي, وحذر من أنه في حال امتلاكهم له, فلن يتورعوا عن استخدامه بكل تأكيد! وفي إطار خطة الرئيس الأمريكي لتخفيف التوتر الدولي وقع علي اتفاقية( ستارت2) مع الرئيس الروسي( ديمتري ميدفيديف) لتحديد وتخفيض الأسلحة الاستراتيجية الهجومية, والتي رأي فيها الرئيس الروسي أن لا غالب ولا مغلوب فيها, رغم أنها تحافظ علي التفوق النسبي لأمريكا علي روسيا, إلا أن منطقها يدور حول فكرة الردع النووي لا استخدامه, خاصة بعد أن تخلت الإدارة الأمريكية عن نشر درع صاروخية شرق أوروبا الذي أثر سلبا علي العلاقات بين البلدين, متخذا موقفا مناقضا للإدارة الأمريكية السابقة, بل وتوج جهوده بالإعلان عن مبادرة خاصة في مؤتمر مراجعة معاهدة منع الانتشار النووي الأخير بنيويورك تسعي لمضاعفة المساهمة الأمريكية لدعم الاستخدامات السلمية للطاقة النووية علي حساب العسكرية, ولإظهار جدية( أوباما) في الحد من الخطر النووي تم الإفصاح عن القدرات النووية في الترسانة الأمريكية, لتطبيق مبدأ الشفافية وزيادة ثقة العالم في جدية الإدارة في هذا الشأن الحيوي, بل وتبنت الإدارة إنشاء صندوق لدعم الوكالة الدولية للطاقة النووية لتطوير عملها سلميا, ورصدت لذلك(100) مليون دولار, علي أن تدفع أمريكا نصفها وتجمع مساهمات من باقي الدول المعنية.. فنجد هناك حرصا دءوبا لخطب ود العالم وحرصا علي التحالف الدولي, وعدم الانفراد بالقرار عكس ما كان يحرص عليه سلفه( بوش), الذي انتهجت إدارته استراتيجية تعتمد علي عقيدة عدوانية منفردة, تتحرر من القانون الدولي, وقيود التحالفات, والرأي العام العالمي, وفوجيء العالم بوحشية غزو العراق وتدميره جيشا ومجتمعا, لا لصالح الديمقراطية كما ادعوا, ولكن في إعادة بعث الاحتلال العسكري المباشر للسيطرة علي العالم, وبداية القرن الأمريكي الامبراطوري, مما حقق نظرية( لينين) أن الإمبريالية أعلي مراحل الرأسمالية, فعودة الاستعمار القديم بالعراق, لم يرعب العرب فقط, بل أرعب العالم من الامبراطورية الجديدة المتوحشة, وقدم العرب تنازلات جوهرية لتفادي المطرقة الأمريكية, بعرض مبادرة عربية للصلح مع إسرائيل, وإصلاحات سياسية براقة, وإعادة هيكلة للاقتصاد الوطني ليتماشي مع الرأسمالية المنفلتة, لترضي أمريكا وقواها الحاكمة, وتقضم ظهر الشعوب الكادحة! لم تفقد أمريكا باستراتيجيتها العدوانية احترام وتأييد الدول النامية المتضررة, ولكن الحلفاء أيضا الذين سايروها وقاوموها خوفا علي مصالحهم, وأدت الحرب علي الإرهاب إلي تقويته, وإيجاد ذرائع ومبررات قوية وذهب سوء الظن بها إلي أنها لاتحارب الإرهابيين بل توجدهم وتدعمهم ليكونوا ذريعة لاستراتيجيتها العدوانية للسيطرة علي العالم! الاستراتيجية العدوانية حققت بعض المكاسب المرحلية لأمريكا, ولكنها أخلت بالتوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط بين العراق والعرب, وبين إيران وفي باكستان والهند, وظهرت تحالفات دولية مضادة لها, بل الأهم من ذلك استدعت المقاومة الشعبية المقابل الطبيعي للاحتلال, وقوت شوكة التطرف المؤدي إلي الإرهاب, وواجهت أمريكا الشعوب التي كثيرا ما تغنت بحقها في تقرير المصير في عصور غابرة, كان اضطهاد الشعوب فلسفة دولية استعمارية تحمل ذرائع ومبررات لا حصر لها منذ عهد( نابليون), ومن سخرية القدر أن تعيد أمريكا الكرة في عصر أهم ما يميزه أنه عصر الشعوب الحرة وأصبحت الحرية والديمقراطية والعدالة قضايا يومية تطرح في وسائل الاتصال العاملة ليل نهار دون توقف. أعتقد أن ما ينقذ أمريكا من سقطتها التاريخية هي فلسفتها البراجماتية التي تعتبر فلسفة أمريكية قلبا وقالبا, وهي فلسفة تدخل المنهج العلمي التجريبي علي الفلسفة, وتبحث عن المعني الواقعي للفكرة, وتعطيه قيمة حسب نتائج تطبيقه علي الواقع, فلا تنساق خلف نظريات طوباوية مهما كانت مقنعة لفظيا ونظريا, ويستوي في ذلك أبسط التصورات اليومية, وأعمق النظريات الفلسفية, فهي نظرية علمية تقوم علي المبدأ العلمي, وهناك فارق كبير بين العملية والإنتهازية, فتقوم الأولي علي تطبيق المنهج العلمي ليصل للمنفعة, بينما تقوم الأخيرة بكسر كل القواعد العلمية للوصول للمنفعة, والتي غالبا ما تكون مؤقتة! ولابد أن يكون للحديث بقية!