باتت قضية التحول الديمقراطي- خاصة في العالم العربي إحدي أهم القضايا المطروحة علي ساحة البحث الدولية والمحلية. ففي كل مرحلة من مراحل التطور السياسي في التاريخ المعاصر. تبرز منطقة بعينها لتحتل أولوية معينة, وتصبح هي' النموذج'. فبنهاية الحرب العالمية الثانية(1945), امتد النظام الديمقراطي ليشمل دول أوروبا الغربية كلها, كما أفسح المجال لتحول دول المحور المهزومة إلي الديمقراطية, وكانت حالتا ألمانيا واليابان هما الأبرز, وإن شكلتا الاستثناء بحكم خضوعهما للتدخل الخارجي المباشر. وأثناء فترة الحرب الباردة, أي في السبعينيات من القرن الماضي, امتد الأمر إلي دول جنوب أوروبا( إسبانيا واليونان والبرتغال) وأجزاء كبيرة من أمريكا اللاتينية. وبعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي(1991), امتد التحول الديمقراطي إلي أوروبا الشرقية. وظلت أوروبا الشرقية بالتحديد تحتل مكانة مهمة أو مميزة بالنسبة لمن يتطلعون إلي تحول مماثل علي المستوي العربي. والسبب الرئيسي في ذلك هو الدور الذي لعبته أوروبا الشرقية كنموذج سابق لاستلهام نظام الحزب الواحد والملكية العامة للاقتصاد والأيديولوجية الشمولية في العالم العربي. ولذلك ثارت توقعات- ولا تزال- بأن يحذو الأخير حذو أوروبا الشرقية في التحول إلي الديمقراطية. والسؤال هو إلي أي مدي المقارنة جائزة؟. لم يكن تحول أوروبا الشرقية نحو الديمقراطية سهلا بالطبع, ولكن توافرت له ظروف خاصة. فلاشك في أن تجاور أوروبا الشرقية مع مثيلاتها الغربية قد سهل انتشار ثقافة الحرية وحقوق الإنسان, والتي كان لها دورا أساسي في تقويض دعائم الأيديولوجية الشمولية, فضلا عن تقديم الاتحاد الأوروبي النموذج والدعم في آن واحد لمثل هذا التحول. ولذلك, كان التغيير في أوروبا الشرقية متدرجا( بل ربما بدأ خجولا منذ توقيع اتفاقية هلسنكي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي), ولم يكن ثوريا أو عنيفا, إذ إن التحول الديمقراطي هناك اعتمد علي مجتمع مدني قوي تحرر بعد قمع أمني طويل, وإصلاحات داخل الأحزاب الحاكمة ووجود قضاء مستقل وإعلام حر, ومعارضة تقريبا موحدة متزامنة مع بروز جيل جديد من الناخبين مثلما تم من خلال الانتخابات كأداة للتغيير كما حدث في سلوفاكيا1998, وأوكرانيا2000, وفي صربيا2000, جورجيا2003, وأوكرانيا مرة أخري2004, حتي أطلق عليها' ثورات انتخابية', لأن فوز المعارضة في الانتخابات شكل البداية لعملية تغيير كبري أفضت إلي الانتقال إلي الديمقراطية. ولا يعني ذلك تطابق جميع تلك الحالات, فقد مرت بمراحل انتقالية كانت مترددة وبطيئة, خاصة في مراحل التحول إلي اقتصاد السوق, مثلما كان الحال في بولندا والمجر وبلغاريا- علي سبيل المثال- كما اعتمد كل منها علي استراتيجياتها المحلية التي توائم كل حالة علي حدة. ولكن العنصر اللافت هنا كان في الامتداد الإقليمي, أي لم تكن هناك حالات وحيدة أو معزولة عن بقية ما يجري علي مستوي أوروبا الشرقية كلها تقريبا, إذ كان هناك تأثير وتأثر متبادل. فضلا عن وجود عوامل دولية خارجية شديدة التأثير أيضا ولا يمكن تجاهلها, تمثلت في مساندة الدول الغربية والولايات المتحدة بقوة لمثل هذا التحول, وأحيانا بشكل عسكري من خلال خلف الأطلنطي( مثل الحملة العسكرية التي قادها الحلف ضد نظام سلوبودان ميليوسوفيتش في صربيا) ومثل دعم ما سمي بالثورة البرتقالية في أوكرانيا. إن تناول أوجه الشبه ومدي تأثر العالم العربي بتجارب أوروبا الشرقية في المرحلة الشمولية, خاصة إبان الخمسينيات والستينيات, لا يعني تلقائيا أن العالم العربي بصدد التحول الديمقراطي نفسه الذي شهدته أوروبا الشرقية علي مدي العقدين الأخيرين. صحيح أن هناك بعض أوجه الشبه من حيث توافر بعض العناصر السابق الإشارة إليها ولكن ذلك لا يعني أن العالم العربي بصدد تجربة مماثلة لتلك التي شهدتها دول أوروبا الشرقية أو إعادة إنتاج لها. صحيح أن تسعينيات القرن الماضي, ومع انهيار حائط برلين الذي كان رمزا لسقوط الفاصل بين الديمقراطية والشمولية, بدأت مرحلة جديدة في العالم من حيث التأثر بانتشار ثقافة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, ولم يكن العالم العربي استثناء, إلا أنه تبقي عوامل أخري مختلفة, منها الثقافة العامة. فأوروبا الشرقية في النهاية هي امتداد لأوروبا الغربية, تقاسمها أصولها الثقافية. أما العالم العربي- الإسلامي, فتظل له ثقافته الخاصة. فالديمقراطية هي وليدة الليبرالية الثقافية والحداثة, وتلك وإن كان العالم العربي قد عرفها- إما لفترات تاريخية معينة, أو من خلال إسهامات فردية لمفكرين رواد- فإنها ظلت حبيسة بحكم تجذر تراث مغاير لها. بل إن مفهوم الحرية ظل مثار اختلاف كبير في مرجعيته العربية- الإسلامية عن مثيله في الليبرالية الحديثة. كذلك الحال بالنسبة لتجارب الحكم والمعارضة عبر التاريخ. فالخبرة الإسلامية تأرجحت دوما بين التقليد الثوري' الخروج علي الحاكم', والتقليد المؤسسي المهادن' طاعة ولي الأمر', دون أن يصل ذلك إلي شكل ديمقراطي حديث. والواقع أن ذلك ليس فقط تاريخا, ولكنه يتحكم في كثير من التجارب العربية الآن إلي جانب الصراعات الطائفية والمذهبية واستمرار المجتمع التقليدي القبلي والعشائري. ناهيك عن غلبة ظاهرة المعارضة الأصولية علي المشهد السياسي والصراع بين أصحاب الدعوة إلي' الدولة الدينية' وبين الداعين إلي' الدولة المدنية الحديثة'. وهذه ظواهر مقصورة علي التجربة العربية تجعل التحول الديمقراطي صعبا.وعلي العكس فإن الفصل بين الدين والسياسة هو جزء من الثقافة السياسية في أوروبا(غربية وشرقية) كنتاج طبيعي لحركة الإصلاح الديني, وعصر النهضة والتنوير الذي قاد أوروبا إلي الديمقراطية. يضاف إلي ذلك ضعف المعارضة العربية بشكل عام التي لم تنجح أغلبها في أن تتحول إلي أحزاب جماهيرية ولا أن تتوحد علي هدف واحد يدفع بعملية التغيير, فقد ظل لكل فصيل منها أجندته الخاصة, سواء كانت خلفيته ليبرالية أو يسارية أو إسلامية أو عروبية, وهكذا بعكس حركة المعارضة في حالة أوروبا الشرقية. ومثل أحزاب المعارضة, ظلت حركات الاحتجاج بدورها محدودة, ليس فقط علي مستوي التعبئة الجماهيرية, وإنما أيضا عن ممارسة الضغط السياسي القادر علي إحداث فارق حقيقي. وبالمقارنة, يصعب القول إن هناك مدا إقليميا فيما يتعلق باتساع نطاق عمليات التحول الديمقراطي لتشمل كافة أو أغلب دول الإقليم بحيث تشكل حركة إقليمية عامة. مثلما كان حال أوروبا الشرقية. وأخيرا, فمن الصعب أيضا المماثلة بين دور العامل الخارجي في الحالتين. ففي الحالة الأولي, كان للولايات المتحدة مصالح تجعلها تضع دعم التحول الديمقراطي في أوروبا الشرقية من الأهداف الرئيسية لاستراتيجيتها العالمية وأن تنفذ ذلك فعليا, وأن تستقبل الأخيرة هذا الدور من دون الدخول في جدلية' الداخل والخارج'. وهي ليست الحالة العربية- ولاشك- بحكم الحساسية السياسية والتاريخية الشديدة من أي عنصر أو دور خارجي, فضلا عن أن هذا الهدف تحديدا, أي دعم التحول الديمقراطي, ليس جزءا أصيلا من الاستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية, مثلما كان حالها مع أوروبا الشرقية, مهما تكن الاستثناءات التي قد تعطي مؤشرات وقتية مختلفة في بعض المراحل السياسية. ولذا, فقد يري البعض أن هناك الكثير من أوجه التشابه بين أوروبا الشرقية والعالم العربي, ولكن يري آخرون أن الفروقات بينهما كبيرة أيضا. المزيد من مقالات د . هالة مصطفى