دهش أشرف حين علم من صراف الخزانة أن إبراهيم المتغيب عن العمل منذ أسبوعين يعاني من فشل كلوي ويرقد في بيته. استوثق من الصراف إبرهيم الشاب النحيف من شئون العاملين. أرجح الصراف رأسه يمينا ويسارا تعبيرا عن الأسف هو بعينه أبو خليل المحترم الذي لم يعل صوته يوما, ولم نسمع منه سوي صباح النور ويوم سعيد! وصل إلي البيت وأخبر سنية زوجته بأن ابراهيم يبحث عن كلي. دقت صدرها بيدها يا لهوي! إبراهيم ؟ الذي زارنا بصينية البسبوسة ؟ المؤدب ؟!. قال نعم. سأنام قليلا وأذهب لأزوره, حالته صعبة كما يقولون لابد أن أطمئن عليه. أيدته وهي تغطيه بملاءة خفيفة واجب. بعد المغرب كان يقف أمام باب شقة إبراهيم يدق الجرس. فتحت له بنت نحيفة في نحو العاشرة. رفعت إليه عينين واسعتين ودون أن تقول شيئا أعطته ظهرها ومشت أمامه بصندل رجالي ضخم ليس لها, فتبعها عبر الصالة إلي حجرة الصالون, دون أن يسمع صوتا لحركة في الشقة. تركته البنت في الصالون ومشت إلي الداخل وقد طأطأت رأسها. أحس بجو الحجرة مكتوما. الشباك مقفول, ونور ضعيف من لمبة وحيدة, وعلي سطح ترابيزة أمامه رقدت لفة قطن طبي علي طرفها نقطة دم غامق. بعد قليل دخل إبراهيم وابنته تمسك به من كوعه إلي أن أجلسته, قربت عينيها الواسعتين من وجهه تحدق فيه بتمعن ثم تراجعت وقعدت علي حافة مقعد بينهما. قال مواسيا بصدق ألف سلامة يا أبو خليل. بعد الشر. وأجابه إبراهيم بوجه غيبه الشحوب كثر خيرك يا أفندم. تساءل بنبرة تعجب: تحتاج أي شئ أنا تحت أمرك ؟ لكن كيف يحدث هذا ؟ الفشل الكلوي لايمكن أن يظهر فجأة من الباب للطاق ؟ لابد أن الحكاية من زمن ؟ نعم. كنت أغسل كلي من خمس سنوات يا أفندم. والله ما أعرف. عمرك ما قلت لأحد! نحن زملاء. كان لازم تقول لنا. كان لازم أقول, لكن كل واحد به ما يكفيه من الهموم. وبم ينصح الأطباء ؟ مطت البنت رقبتها ترهف السمع لما سيقوله أبوها. تنهد إبراهيم متعبا: في حالتي هذه لاشئ سوي زرع كلي جديدة إذا ظهر متبرع, لكن عموما أهم حاجة تجنب اللحم الدسم والأطعمة ذات الألياف. ألف سلامة. أية أطعمة هذه ؟ المانجو. الطماطم. الطماطم ؟! يانهار أبيض! وأنا كنت أتسلي بها طوال اليوم!!. قالها أشرف وأخرج علي الفور قلما من جيب القميص وهو يزووم ممم. طماطم. والتفت إلي منضدة علي يمينه, التقط كراسة كانت علي سطحها وانتزع ورقة منها سجل عليها مانجو وطماطم ودسم ممنوع. ياأبو خليل أي شئ تحتاجه قل لي. هذا واجب. سألتك ياسيدي لأنه كان عندي نوبة وجعتني فيها كليتي قوي. ألم فظيع يا أبو خليل! علي ما أذكر الدكتور أيامها أعطاني دواء فوار. علبة بنية صغيرة لكن طويلة شوية, أظن كانت بستة جنيهات, لاء, بسبعة جنيها وربع. وأولاد حلال قالوا لي أيامها أنقع شعيرا في الماء كل يوم بالليل وأشربه علي الريق. الشعير ينفع ؟ جفف إبراهيم حبيبات عرق علي طرف أنفه: الشعير حلو. آه. ملعقتين حلو. ضحك أشرف: معلقتين ؟! يا أخي الواحد ينقع إن شاء الله أربع ملاعق. الشعير مالي الدنيا. وقرب رأسه من وجه إبراهيم مبحلقا فيه: تحتاج أي شئ قل لي. بالشرف ؟ لكن أنت يا أبوخليل, أنت, بحكم خبرتك وبما أن أطباء كثيرين كشفوا عليك, تقدر تعرف إن كانت كلية إنسان ما سليمة أم لا ؟ ممكن طبعا. نهض أشرف واقفا وأعطي ظهره لإبراهيم ورفع الجاكته والقميص والفانلة: طيب شوف. ربنا يسترك يا أبو خليل. بص. هي الكلية اليمين علي ما أظن. لأ. دقيقة واحدة. دقيقة. أنا لا مؤاخذة لما كنت أقف أمام باب حجرة النوم وظهري للشباك كانت الكلية التي علي الشمال. لا. صبرك. اليمين. من ناحيتك أنت تبقي هي اليمين. صح. مر إبراهيم بطرقات خفيفة من يده علي موضع الكليتين في ظهره وسأل بصوت واهن نحيف: هل شعرت بألم ؟ أبدا. لا شئ تقريبا. يبقي سليمة بإذن الله. اعتدل أشرف ناحية إبراهيم وهو يحشر الفانلة والقميص داخل البنطلون, وانتبه لوجود البنت فقرصها من خدها مبتسما لإبراهيم: ربنا يطمنك يا أبو خليل. عاد أشرف إلي الكرسي وألقي برأسه للوراء مغمضا عينيه. قفزت البنت من مكانها تتوسل لوالدها شبه باكية: الشوربة تبرد يا بابا! ارتعشت علي وجه إبراهيم ابتسامة شاحبة وثبت عينيه في عيني ابنته بنظرة طويلة حانية. عاد أشرف للكلام: يا أخي حاجة عجيبة. أنت كشفت بنفسك, ليس بي شئ ولله الحمد, لكن يا أخي أتوهم العياء حين تفتح سيرة مرض! غريبة.. أليس كذلك ؟! يمكن حالة نفسية ؟ الآن مثلا أشعر بدوخة ؟!. ولقلق أشرف رأسه كأنما يختبر مدي دوخته. ثم قال: وأحس بهبوط. تصور ؟! ونظر للبنت والنبي ياعروسة كوب ماء بسكر لعمك أشرف. نهضت البنت وقد عقدت يديها بغضب عند بطنها تفركهما بشدة واتجهت للمطبخ وعادت بقدح ناولته لأشرف ونظرت لوالدها كأنما تشهده علي شئ. قال أشرف: التوهم حاجة صعبة فعلا يا أبوخليل. ألقي عندك مسكن ؟ قال إبراهيم وهو يتنفس بصعوبة: المسكنات التي عندي للحالات الشديدة. لاداعي إذن, ممكن فيتامين. أخرج إبراهيم زحاجة من جيبه وناوله حبة فابتلعها وتمهل قليلا: الحمد لله. أفضل. راحت الدوخة. تقريبا راحت. نهض أشرف وطوي الورقة التي معه ودسها في جيبه: بحاجة لأي شئ ؟ قل. نحن زملاء ؟ لكن بالنسبة للشعير أمشيه علي طول ؟ نعم. خلي الشعير علي طول. انحني أشرف باسطا يده لمصافحة إبراهيم: كله علي الله. أمر عليك بعد أسبوع نشوف الحالة. مراجعة سريعة لا أكثر. ولو أني والله أعلم أنه توهم! أحكم إبراهيم شالا صوفيا حول خصره ومد كفا مرتعشة, وغمغم بصوت منهك متقطع: مر خلال اسبوع, ن.. ن.. نتا.. انحني أشرف عليه يستوضح الكلام ن ؟ ن ؟ ماذا ؟. استجمع إبراهيم قواه بالكاد متمتما ن.. ن.. نت!!! بع الحالة. بإذن الله. سآتي لا تقلق. والله سآتي لا تحمل هما. سار أشرف والبنت وراءه تشيعه حتي باب الشقة. فتحت له الباب لكنها لم تنتظر حتي تغلقه خلفه, فقد استدارت مسرعة إلي ترابيزة السفرة في الصالة واختطفت من فوقها صحنا غويطا وهرولت في الصندل الضخم والشوربة ترتج بين يديها إلي الصالون حيث والدها. تابعها أشرف ببصره مندهشا ثم هبط علي السلالم. حين بلغ البيت سألته سنية زوجته شفت إبراهيم ؟ اطمأنيت عليه؟. أجابها بإيجازاطمأنيت الحمد لله.وضعت أمامه طبق فول وقطعة جبن علي المنضدة قائلة إبراهيم ابن حلال, بس زوجته عقربة,وعندما وضعت طبق سلاطة ورأي فيها طماطم صاح لاء. الطماطم ممنوعة علي. مضرة للكلي. تعجبت أنت كل شوية تطلع بحكاية. والطماطم ممنوعة طازجة أم في الطبيخ كذلك؟. دهش من أنه لم يسأله بالتفصيل وقال نسيت أسأل إبراهيم. تخيلي! والآن لا يصح أن أثقل عليه فأفسد أثر زيارتي. وظلت يده معلقة في الهواء بين فمه والطبق إلي أن صاحت سنية بفرحة عارف نسأل من ؟ طه ابن تهاني ؟ نحن ننسي أنه طبيب ؟!. تهلل وجهه يخرب عقلك! كيف راح طه من ذهني ؟!. قالت نزوره ونتكلم معه. خصوصا انه كان تعبان من أسبوعين. أمن علي كلامها مادام مريضا لازم نزوره. ولو أنه علي ما أذكر استقبلنا في المرة الأخيرة بوجه كالح وقلة ذوق, لكن لا بأس قالت واجب, فأضاف بشهامة ومهما يفعل سنزوره. الواجب لا مفر منه!