وأنت تنظر إلي الصورة الفوتوغرافية, المليئة بالإيحاءات, التي نشرها العديد من الصحف منذ عدة أيام, لابد أن ينفجر بداخلك شلال من الأسئلة, وبركانان, أحدهما حزن والآخر فزع. الصورة كانت لصبي في الخامسة عشر, أو السادسة عشر, يحمل أوكورديون يحاول العزف عليه, وسط ركام مدرسة محترقة, تم نهبها بعد حرقها, فبدت وكأنها أطلال.. وكان هذا العازف أحد الناهبين! وحتما سيبدأ شلال الأسئلة المتفجر جواك كالتالي: لماذا يحرق هؤلاء الصبية المدارس؟.. إننا ربما نفهم أن يتوجهوا إلي الشرطة, فيقذفوها بالحجارة, وقد يتحدث البعض عن ثأر ما كامن في النفوس مع الشرطة, لكن لماذا حرق المدارس؟.. هل ثمة ثأر بين هؤلاء الأطفال والمدرسة؟.. هل في داخل أرواحهم صوت مخنوق يزعق: لماذا لم تعلمونا كما تعلمتم أنتم؟.. هل يصرخ فيهم عقلهم الباطن مثلا: مادمتم لم تعلمونا كما تعلمتم, فسنحرقكم؟ وما دلالة الأوكورديون هنا؟.. ولماذا امتدت يدا الصبي تلتقطه هو تحديدا من بين محروقات أخري؟.. قد يكون أخذه لبيعه مثلا؟ جائز, لكن لماذا علقه في كتفيه, وراح يحاول العزف؟.. وطبعا لم ينجح, فلا أحد علمه العزف, فهل ألقاه بغضب بعد ذلك علي الأرض, وحطمه بقدميه, أم ماذا بالضبط؟.. نحن لا نعرف, فالصورة لم تقل لنا! غير أن القياس المنطقي والقراءة النفسية, قد يفسران لنا الموقف, إن لدي الولد رغبة دفينة في العزف امتزجت برغبة دفينة أخري أشد في الحرق والتدمير.. ما هذا؟.. الفن والتدمير معا في روح واحدة؟.. كيف يجتمعان؟.. نعم يا سيدي.. في روح مصر المنهوبة.. كل شيء ممكن, والتناقض هو الأصل, ويا عيني يا عيني علي الولد! أما البركانان اللذان أولهما حزن وثانيهما فزع, فإن مبعثهما سؤال أشد وأقسي: هل أصبحت مصر رهينة لهؤلاء الصبية؟.. إنك وأنت تحاول أن تبيع للناس أسطورة أن حضرتك شخص ثوري جدا لا يمكن أن تسمي ما يجري الآن في شوارع وسط القاهرة, وفوق الكباري, وتحت الأرض في المترو, بالثورة التي أرادها المصريون لأنفسهم في يناير.. لا, فنحن أمام ثورة من نوع آخر, أبطالها هم هؤلاء الأولاد.. وإلا فقل لي أدام الله عليك روحك الثورية ما معني أن يخطف هؤلاء الأولاد الثائرون صبية مثلهم, فيتناوبون علي اغتصابها خلف مبني وزارة الخارجية؟.. أو ما معني أن ينهالوا, بكل ما فيهم من طاقة وعزم, علي واجهات الفنادق فيحطموها؟.. آه.. لا تنس يا صديقي, فهذه الفنادق هي فنادق الأغنياء الذين سرقوا أعمارنا.. لكن هل كانت الطفلة المغتصبة من الأغنياء أيضا؟! إن زميلنا المصور الصحفي, الذي التقط صورة الولد والأوكورديون, سماها جنون, وكان محقا تماما, فلا وصف أفضل من الجنون يمكن إطلاقه عليها.. وإن شئت فشاهد سيادتك الفيديوهات التي تقدمها الفضائيات للحظات الحرق والتدمير, وسيلان الدماء علي الوجوه.. أرجوك دقق جيدا في الوجوه التي تحرق, فلا تبقي, واقرأ بتمعن نظرات التشفي والاستمتاع الشهواني المجنون, المتفجرة في العيون وهم يسمعون طقطقة النار.. يالها من متعة, لا تضاهيها متعة, وأنت تحرق وطنك.. لكن هل هو حقا وطنك, أم أنه وطن الآخرين الذين سرقوك؟ إنك لن تري هؤلاء الأولاد في شوارع القاهرة وحدها, بل في المحلة, والسويس, وبورسعيد, والإسكندرية, ودمنهور, وفي كل مكان.. إن مصر نصفها شباب, ونصف الشباب عاطلون, وكثير منهم أطفال رباهم الشارع, وناموا في العراء وتحت الكوبري, فماذا تنتظر منهم سوي الغضب الفوضوي؟ وبمناسبة الحديث عن الفوضي, فإن الفوضي تقود إلي مزيد من الفوضي, وعندما تضعف الدولة, أو تفقد هيبتها, فلا تعود قادرة علي إطعام أطفالها, وتعليمهم وعلاجهم وتوفير الأمان النفسي لهم, توقعوا أي شيء.. وهل يمكن هنا الربط بين ما يجري ومجموعات الأناركيين وذوي الأقنعة, أو أعضاء الكتلة السوداء البلاك بلوك, أم أن لهؤلاء مسارا آخر ينبغي دراسته بعناية؟.. علي كل حال, في معزوفة الخراب كل الخيارات مفتوحة! المزيد من مقالات سمير الشحات