في الذكري الرابعة عشرة لرحيل الناقد الكبير الدكتور علي الراعي, نقدم هنا هذا المقال الذي كان قد كتبه منذ نحو عشرين عاما: نعيد قراءته وتأمل كلماته.. ونعجب بتلك القيم التي يبثها عبر سطوره: هذه العلاقة الطيبة والمباشرة بين الاستاذ وطلابه والتي تمنح مساحة للحوار والجدل الراقي...هي إطلالة علي الدور العظيم للفن والأدب في حياة الأمم, ومناداة بأهمية انخراط المثقفين والمتخصصين الدراسين للأدب في إثراء أدبنا القومي..كان الراعي, كما يقول الفنان سعد أردش, محتضنا بأبوة حانية للأجيال الصاعدة من المبدعين, مرحبا بكل جديد تطرحه الأفكار الشابة, عن يقين بأن أعظم النتائج في النهاية هي نتاج تلاحم أفكار الأجيال المتواصلة. ومن هذا المنطلق فقد سهر علي زرع ورعاية مجموعة المبادئ والقواعد والمعايير التي حكمت أزهي فترة من فترات تاريخ الثقافة في مصر. قضيت خمس عشرة سنة أحاضر شباب العرب من الجنسين في مصر والكويت في الدراما المعاصرة.. كثيرا ما يسألني الطلبة والطالبات: لماذا تدرس الدراما العالمية في قسم مخصص للأدب الانجليزي؟ لماذا نقرأ أعمال أبسن, وتشيخوف وستريندبرج وبيراندللو ولوركا, وكلهم من غير الانجليز؟ وكنت أجيب الطلبة في صبر أحيانا, وفي نفاد صبر أحيانا أخري, إن الأدب والفن عامة لا يعرف حدودا جغرافية, ولا يأبه بالنزعات الإقليمية, ولا ينظر إليها كحواجز بين الناس. إنه نشاط إنساني شامل, بين الناس في كل مكان, علي اختلاف الجنس والدين واللغة والمكان والزمان, وهذا هو سر عظمته وقوته, هذا هو الذي جعله يتحدي الزمن وبطش الطغاة, وصرامة الأنظمة وتعنت السياسات الحزبية, وتزمت الإيديولوجيات المختلفة. بم يستطع الزمن أن يغيب في طياته سحر هومر,ولا سخرية أريستوفان ولا حكمة ونفاذ بصر يوريبيديس. عجزت القرون عن أن تأوي في أحشائها المظلمة ضحكات شكسبير المفعمة بالمرح, وبكاؤه الملئ بالتفجع ورغم أنف الزمن, ما زالت قلوبنا تنبض مع نبضات المعري, وتتألم لشكوي ابن الرومي, وتبتسم لخيلاء المتنبي, وتطرب لسخريات الجاحظ. لم يستطع دكتاتور واحد علي كثرة أزراره أن يضغط زرا واحدا منها ليصنع أديبا أو ليمنع آخر من الظهور. فشلت الآنظمة جميعا, والسياسات والإيديولوجيات في أن تحتوي عبقرية الأديب والفنان علي كره منه. بل عجز العلم نفسه حتي في عصر العلوم الذي نعيشه عن أن يفسر لنا لماذا يولد فرد بموهبة خارقة, ويكون أخوه الشقيق, بلا موهبة أصلا علي اشتراك الإثنين في الغذاء والزمان والمكان والوضع الاجتماعي والمؤثر الفكري, ظلت للفن أرضه الخاصة تتحدي التحليل والتفسير حتي الآن, فأصبح ملجأ وملاذا لكل من يضجر بكثرة التحليل وفرط التأويل. ولا أعلم تماما كيف تقبل طلابي وطالباتي هذا التفسير علي مدي الأعوام واختلاف الأمزجة والأمكنة. أغلب الظن أن كثرتهم قد قبلته بوصف أن هذا ما قال الأستاذ فلم يناقشوه, وربما تكون قلة منهم تقتنع به وخرجت بالصمت من لا ونعم, وربما تكون الندرة قد تبينت ما يكمن وراء التفسير من حق يدعمه التاريخ وتجارب الزمن. كانت هذه إذن مواجهة هادئة بيني وبين طلابي. أما الذي لم يكن هادئا قط فهو محاولاتي الدائبة لعقد مقارنة بين مسرحيات العالم المعاصرة وبين المسرحيات العربية. هنا كان الجو يتوتر دائما, وتبدو علامات الاحتجاج, والرفض, بل والاستنكار وأحيانا قليلة الاستخفاف بما يقول الأستاذ. فيم أتحدث عن المسرحيات العربية في قسم اللغة الانجليزية, وآدابها؟ أليس المكان الوحيد لدراسة المسرحيات العربية هو قسم اللغة العربية وآدابها؟ أليس هو القسم صاحب الاختصاص؟ ولو كان مرادنا أن ندرس المسرح العربي, أكان من العسير علينا أن نلتحق بذلك القسم المختص؟ ثم ينظر إلي الطلاب ليروا وقع هذه الحجج( المفحمة) علي. فلعلي أتنازل عن هذا الاتجاه الخاطئ, وأنفق الوقت الإنجليزي في الحديث عن الأدب المسرحي الإنجليزي. هنا كانت المعركة تسخن ثم تشتعل. أقول للطلاب والطالبات: إنكم تصدرون في أرائكم هذه عن فهم خاطئ لمهمتكم وغايتكم من دراسة الآداب العالمية, وبينها الأدب الإنجليزي. فليس المقصود أن نخرج من بين صفوفكم خبراء في الآداب العالمية, أو باحثين فيها أو مبدعين بها. ذلك أمر إن تم, فهو نتاج فرعي للدراسة في هذا القسم. أما المقصود, أو الذي ينبغي أن يكون هدفا, فهو أن نجعل منكم دارسين واعين متذوقين مرهفي الحس, وأطقما أدبية حسنة التدريب, لتذوق الأدب العربي, ودراسته واغنائه, والإبداع فيه, بفضل ما عاينتم من نماذج عالمية يمكن إحتذاؤها, أو نقدها, أو حتي رفضها لصالح الأدب العربي. نحن لا نعلمكم الآداب العالمية لتصبحوا خواجات, فإن هذا هدف, لا هو مطلوب, ولا هو ممكن التحقيق. فسيظل العربي عربيا وستبقي رؤيته للآداب العالمية في كثير من نواحيها أقل نفاذا من مواطني تلك الآداب, بينما لا يستطيع غير العربي أن يري أدبه العربي بكل الوضوح والتعمق, والإعزاز, التي هي جميعا من نصيب الباحث العربي الموهوب, خاصة إذا تسلح بأساليب البحث العالمية وبكنوز الأدب العالمي. وذلك ما فعله دائما الكبار في أدبنا العربي. ابن المقفع المستعرب, إذ يترجم كليلة ودمنة لصالح الأدب الغربي, علي سبيل المثال. أو مترجمو الآداب الهندية والفلسفة اليونانية من العرب, الذين فهموا الغرض الأساسي من دراستهم علي أنها بعد التثقيف الشخصي نقل لنور الحضارة ونارها من ثقافة إلي ثقافة, قصد الإغناء, والتطوير, وفتح المنافذ. ماذا كان يصبح حالنا لو قنع طه حسين بدراساته في الأدب الفرنسي وأصبح( مبرنطا) بالفعل والعمل, وليس بقول خصومه والشانئين له؟ وماذا كان يحدث لو أن الطهطاوي قد رضي بأن يكون إمام البعثة التعليمية المصرية في باريس, ولم ينهب كنوز الفكر والثقافة الفرنسية علي أيامه, ويضعها تحت تصرف مواطنيه المصريين, والزيات, ومندور, والأخوين تيمور وزكي مبارك وخليل مطران, وعبد الرحمن شكري, ولويس عوض ومفكري العرب وشعرائهم في أرجاء الوطن العربي الكبير: جبران, وأبو ريشة, ومارون عبود, وأبو ماضي, والسياب, والبياتي وعبد السلام العجيل؟ بل ماذا كان يحدث للرواية الجزائرية لو ظل إبداع محمد ديب وكاتب يس حبيس اللغة الفرنسية التي كتب بها الأديبان كرها وعسرا؟ وإلي هنا كان ينتهي حواري مع الطلبة والطالبات, فننتقل مباشرة إلي( جدول الأعمال), وهو المسرحية العالمية موضوع الدراسة, ما لم أكن أقوله لهم لاعتبارات عدة أن ثمة سياسات معادية للعرب تقف وراء حبس مثقفيهم في سجون التخصص المبالغ فيه. كان يدعم هذه السياسات في مصر الرجعية المصرية وآدابها, باعتبارهما من علامات تأخر الشعبيين الأوباش, وتتعاون مع الاستعمار البريطاني في غرس فكرة أن من يريد أن يكون راقيا مثقفا فعليه أن يرطن بلغة أجنبية, وأن إتقان هذه اللغة الأجنبية لا يكون إلا علي حساب اللغة القومية. فبقدر ما( يبرأ) المثقف من لغة قومه وبلاده, تزيد فرص اتقانه للغة السادة, لغة التقدم: لغة العصر, وهي إذ ذاك الإنجليزية, ولا بأس مطلقا من الجمع بينها وبين الفرنسية. لهذا نشأت أجيال من المثقفين المصريين تعرف تفاصيل الأدب الإنجليزي, ولا تكاد تعرف إلا النذر اليسير من الأدب العربي- هو ما أكرهوا إكراها علي قراءته في سنوات التعليم الثانوي وهؤلاء ضاعت علي أمتهم العربية فرصة الانتفاع الكامل بهم. بعضهم عمل بالتدريس, أو بالشركات الأجنبية التي حرص الإنجليز علي إلحاقهم بها وبعضهم اشتغل بالصحافة مترجما أو محررا للأخبار الخارجية. ونحن نتبين علي الفور مبلغ الخسارة التي لحقت بأمتنا في مصر من عزل مثقفيها هؤلاء عن التيار القومي حين نذكر أن قلة منهم, بفضل الذكاء والموهبة والحس الوطني المرهف, استطاعت أن تقطع خيوط الشبكة التي أسرت زملاءهم, وأن تخرج إلي التيار الثقافي العام, وتسبح فيه بحرية كبيرة. أولئك استطاعوا أن يقدموا للأدب العربي الحديث خاصة خدمات كبيرة, بفضل تمرسهم بالآداب العالمية إلي جوار إتقانهم وأهم من هذا حبهم للأدب العربي. وقد تخلصنا إلي حد ما من أثر احتواء المثقفين المصريين في أقفاص تخصص الأدب الإنجليزي, وأخذ عدد منهم يدرك أنه لا تناقض بين دراسة أدب أجنبي وحب وخدمة الأدب القومي, وأن الأولوية ينبغي أن تكون لأدب البلاد, ترفده المعرفة الذكية بأداب العالم. غير أن ثمة اتجاها ضارا أخذ يظهر في هذه الأيام في أقسام اللغة الإنجليزية وآدابها في مصر وباقي أجزاء الوطن العربي, يدعو إلي تغليب الدراسات اللغوية علي دراسة الأدب كأدب, وهذا الاتجاه ينادي بأن القصد من أقسام اللغة الإنجليزية هو تعليم اللغة الانجليزية في المحل الأول, ويأتي الأدب الإنجليزي بعد ذلك في أية مرتبة شئت, ابتداء من المرتبة الثانية إلي لا مرتبة علي الإطلاق. ذلك أن بعض المتعصبين للدراسات اللغوية يرون أن لا ضرورة إطلاقا لدراسة الأدب بحد ذاته, فإن كان ولا بد, فمن المسموح به استخدام النصوص الأدبية كشواهد لشرح قواعد اللغة وتاريخ الكلمات وأساليب النطق إلي آخره. ووجه الخطورة في هذا الاتجاه الجديد أنه يهدم البناء الذي يحرص الأدب أن يقيمه في نفس دراسة والمتذوق له: الإنسان الرحب الأفق, المتفتح العقل, الذي لا يقبل إلا بعد نقاش, ويقول: لماذا, قبل أن يقول نعم, إذ ذاك يتحول شكسبير مثلا إلي نحو وصرف, وتخفت أو تختفي القيم الإنسانية الرفيعة التي تضمها أعماله الباقية. ومن أجل أن تتخلص من أقفاص التخصص ومن سطوة النحاة المحدثين معا, ينبغي أن تسير في طريقين محددين: أولهما, وأقصرهما, وأسرعهما في إيتاء الثمار أن تدخل دراسة الأدب المقارن في كل أقسام اللغات الحية: العربية والإنجليزية والفرنسية, علي أن تكون هذه الدراسة إجبارية, إذ ذاك يعرف الطالب أن دراسته للأدب العالمي الذي اختاره لا تقدم في فراغ, بل أن هذا الأدب و اللغة الذي كتبت به قد تأثرت بآداب ولغات أخري وأثرت فيها بالتالي. وحين يتبين مدي التغيير الذي أدخله الأدب العربي متمثلا في قصصه وحكاياته, ورواياته الخيالية وشعره علي الآداب الأسبانية والفرنسية والألمانية والإنجليزية.. إلخ فسيزداد معرفة بهذه الآداب ذاتها, وسيرتفع في نظره قدر أدبه العربي, فيستطيع, أن يخدمه راضيا ومفيدا. أما الطريق الآخر, الطويل, المؤجل الثمر, فيكون في رأيي بإدماج أقسام الآداب الحية جميعا في قسم كبير واحد ينقسم إلي وحدات فرعية لكل أدب علي حدة, وتنسق فيه سياسة التعليم بحيث يعرف دارسو الأدب العربي أكثر بكثير مما يعرف الآن عن الأدبين الإنجليزي والفرنسي, ويتلقي طلبة هذين الأدبين قدرا أكبر من المعرفة بالأدب العربي علي أن يساندها الدراسة في الأقسام الفرعية المختلفة معرفة بالأدبين اليوناني والروماني يوفرهما قسم الأدب الكلاسيكي الموجود الآن. إذ ذاك تنضم الجزر المنعزلة, وتتحول جميعا إلي أرض مشتركة يستخدمها الكل في جميع الجهات, ولا يعود الأدب العربي غريبا في أقسام اللغات الحية الأوروبية!