نعرف جميعا أن النظام يتكون من سلطات ثلاث هي: التنفيذية والتشريعية والقضائية. من نافلة القول إن الناس لم تعد تثق في سلطة تنفيذية تترأسها حكومة لا احد يعرف ما الذي تفعله في البلاد في ظل تلك الفوضي التي تضرب في طول البلاد وعرضها, كما لم يعد احد يعرف ما اذا كنا سنحصل علي سلطة تشريعية تهتم بشؤن الناس ومشكلاتهم أم سلطة تسعي لتقنين زواج القاصرات, ومنع تحية العلم ومنع الموسيقي والفنون ومن ثم لم يعد أمام الناس من بصيص ضوء سوي في السلطة الثالثة القضائية, ومن هنا فإن اشد ما يحزنني بعد ثورة يناير العظيمة, ذلك السعي الحثيث لتحطيم هيبة القضاء بتغول السلطة التنفيذية عليه وعلي استقلاله واجبار القضاة علي الدخول في مناظرات علنية يختلط فيها الغث بالسمين, واجبارهم علي الدخول في معارك وتنظيم مسيرات ومظاهرات واحتجاجات دفاعا عن استقلالهم, ومنها حصار اكبر المحاكم في البلاد ومنع قضاتها من النظر فيما يعرض عليهم من قضايا, ومنها الحديث الفج عن رواتب القضاة ومخصصاتهم, واخيرا الحديث المغرض عن الفساد واستغلال النفوذ بينهم0 كل هذا بهدف إسقاط هيبتهم والحط من شأنهم واعتبارهم لدي الناس, وتحويل مصر الي بلد بلا قضاء قادر ومعتبر ومهاب ومستقل والقضاء هنا هو صوت الله في الأرض وتجسيده, وهو روح الإنسانية التي انبثقت عندما انعتقت من شريعة الغاب. ولقد أدرك المصريون القدماء قيمة العدل, فرسخوها بعد أن اخترعوا الضمير, وفي شكاوي الفلاح الفصيح التي قدمها المبدع الكبير شادي عبد السلام, عن قصة مصرية قديمة كتبت منذ ما يزيد علي ألفين وخمسمائة عام, يقول الفلاح- الذي تعرضت بضائعه للاغتصاب من قبل بعض حكام الأقاليم- عن قيمة العدل موجها كلامه إلي الحاكم: أيها الحاكم علي كل من فني ومن لم يفن/ إذا ذهبت إلي بحر العدل فإن الهواء لن يمزق قلعك/ ولن يتباطأ قاربك/ ولن تكسر لك مرسي/ ولن يحملك التيار بعيدا/ولن تري وجها مرتاعا/ ذلك لأنك أب لليتيم وزوج للأرملة وأخ للمنبوذ وراع لمن لا أم له/ دعني أرفع اسمك في هذه الأرض فوق كل قانون عادل/ أقم العدل/ انشر الخير/ دمر كل شر/ كن كالرخاء القادم الذي يقضي علي المجاعة/ كالكساء الذي ينهي العراء/ كالسماء الساكنة بعد عاصفة هوجاء/ تمنح الدفء لمن يقاسون البرد/ كن كالنار التي تنضج النيئ/ كالماء الذي يذهب بالعطش/ أيها الحاكم المنزه عن الجشع/الخالي من الخوف/ يا من تحطم الظلم وتقيم العدل/ استجب لصيحتي عندما ينطق فمي/ وعندما أتكلم اسمعني/ أقم العدل أنت يا من لك الحمد ولا يمدحك إلا الممدوحون/ أقم العدل من أجل الإله/ الذي أصبح عدله قانونا للحق/ فالعدل للخلود/ وهو يهبط مع صاحبه إلي القبر/ حينما يلف في كفنه ويوضع في التراب هكذا أدرك المصريون القدماء قيمة العدل, وأنه ناموس الكون وميزانه, وبدون العدل سيضيع الناموس ويختل الميزان, وبدونه- وكما يقول المصري القديم في موضع آخر- سيصير القاضي لصا, الذي أوكل إليه مطاردة اللصوص سيصير زعيم عصابة, وسترمي الجثث علي قارعة الطريق دون أن تجد من يدفنها, ولأن القضاة هم أداة الحاكم في تحقيق العدل وتثبيت الحقوق وإزهاق الباطل, فقد راحت المجتمعات تجلهم وتحلهم مكانا ساميا, لا أريد أن أقول مقدسا, وتبتدع لهم من الرموز والرسوم والنصوص ما يمكنهم من أن يكونوا صوت الله في الأرض, فالعدالة تمسك سيفا يخيف الخطاة ويمحق الشر, والعدالة عمياء إلا عن الحق, طبعا الذي هو فضيلة ذاتية داخلية, فصوت الحق يأتي من الداخل, وإنما وضعت العصابة علي عينيها كي لا يبهرها صاحب سلطة أو سطوة, وكي لا تنخدع بظاهر الناس وأشكالهم, وكي لا يعنيها إن كان الواقف أمامها شحاذا مسكينا, أم إمبراطورا طاغية. كما راحت الإجراءات تسعي لوضع القواعد التي تكفل للقضاة النزاهة والتجرد والموضوعية, فلا ينبغي أن يخالطوا العامة أو يرتادوا المقاهي, أو يعملوا عملا إضافيا, أو يعملوا بالبيع والشراء, بالإضافة إلي ضمان استقلال تنظيماتهم ولوائحهم الداخلية, كل هذا من أجل ضمان سيادتهم المستقلة, ومن هنا كانت تلك العبارة الدالة لا سلطان علي القاضي سوي ضميره. ولكن تأتي أهم هذه الضمانات- من وجهة نظري- وأقصد بها ضمان حياة كريمة واستقلالا حقيقيا, يعصمان القضاة من الضعف ويجعلانهم بمنأي عن الخوف والطمع أيا كان مصدرهما, هنا يصبح موضوع الفصل بين القضاء والسلطة التنفيذية ومكافآت القضاة وامتيازاتهم, ضمانة لاستقلال القضاة ونزاهتهم, وينبغي أن نضع في اعتبارنا أن امتيازات القضاة أو وجود كادر خاص لهم يسمح بتوفير السكن اللائق والسيارة والترفيه والتعليم للأبناء والعلاج, ليس امتيازا لفئة من الفئات, وإنما هو ضمانة, لكي تكون كلمة الله هي العليا علي هذه الأرض, لا كلمة حاكم ظالم أو متنفذ طائل. فلا شك أن الحكم العدل هو أهم ضمانات استقرار النظام ومشروعيته. المزيد من مقالات د كمال مغيث