يخطئ من يتصور زوال أسباب الصراع السياسي في مصر بعد تدشين حجر تأسيس دستور جديد وفرض عقد اجتماعي من شرائح اجتماعية داعمة أو مطيعة لفصيل هيمن علي السلطة في مصر بالانتخاب تارة وبالترويج تارة أخري وقول نعم من أجل استقرار حين ميسرة. فمن يتأمل المشهد السياسي في مصر يلحظ سيادة حالة من الارتباك يشوبها الغموض في الساحة السياسية المصرية رغم ثورة سلمية فارقة في تاريخ الشعوب شهد بها ولها دول وشعوب العالم أجمع; ثورة جماعات من الشباب المصري الذي تعطش إلي الحرية فانطلق ليعبر عن رغبته في تغيير أوضاع مصر التي باتت تؤكد مظاهر التسلطية مستخدمة كل وسائل القوة الممكنة لقهر الإنسان المصري وتطويعه لتحقيق مآرب النخبة ومصالح أصحاب النفوذ وأظهرت فساد النظام وتدهور أحوال الشرائح الدنيا من البشر. إن المتأمل في واقع الأمة لا تخطئ عيناه الوضع المأساوي الذي وصل إليه مجتمع ضحي بأبنائه من أجل الحرية والكرامة الإنسانية ولقمة العيش, كما لا تخطئ عيناه عن رؤية التناقض الصارخ بين خطاب السلطة وبين واقع الحياة التي تعيشها الجماهير. لقد بات من المستحيل أن يظل الوضع في مصر كما كان في السابق, لم يطرأ عليه أي تغيير; بل زاد تأزما وغموضا وعدم فهم لما يدور في الساحة, فالمشهد الاقتصادي غير مبشر بانفراج والأزمة والقرارات الاقتصادية تظهر من قبل الرئاسة فجأة وتلغي أيضا بصورة مفاجئة ودون تبرير منطقي, هي قرارات صادمة بمعني الكلمة وإعلان دستوري لم يتوافق مع رغبات الشعب, ويليه إلغاء للإعلان الدستوري ويأتي دستور كامل لا يعبر عن آراء الشرائح الاجتماعية أو القوي السياسية فيتعقد المشهد ويتأزم ويخرج من هنا وهناك من يدعم ومن يعارض, من يطالب بإلغاء الدستور ومن يساند السلطة في بنود. وهكذا ينتفض الشعب كله بانقسام وبعيدا عن التوحد فصيل داعم للسلطة وقوي سياسية داعمة للرفض وبين هذا وذاك تحاك الألسنة وتطلق الشعارات ويتأذي الشعب في فئاته البسيطة التي تزداد فقرا ومعاناة. حقا إنها تناقضات صارخة, لا علي الصعيد السياسي فقط; بل علي الصعيد التنموي أيضا, فقد غاب عن الأفق مشروع النهضة الذي نادي به أصحاب السلطة المنتخبة, وكنا نسمع عن طموحات لا حصر لها وحديث عن برنامج نهضوي سوف يجلب زخما من استثمارات قادمة تعم البلاد وآفاق مبشرة بالخير, ومشروعات تنموية لم تشهدها مصر في عهودها البائدة وإصلاحات اقتصادية ناجزة لرفاهية الشعب, واسترداد لأموال نهبت من قوت المواطنين, ومع كل هذا لم يحدث تغيير وتآكل هناك بريق الأمل, ولم يعد أي بشارة خير, فنحن بعد عامين ما زلنا نتحدث عن حرية الكلمة وينتفض الإعلاميون لانتقاص تلك الحرية, ونتحدث عن أمل في آليات ليبرالية إنسانية يعترف بها لصالح المواطن, ونحن نصادرها باحتكار وسائل الإعلام, ونفشل في ترسيخ ممارسة ديمقراطية حقيقية وتزداد فتاوي معارضة حرية المرأة وتهميش حقوقها, ووأد حرية التعبير وعدم اتاحة فرص عقد حوارات مجتمعية بين القوي السياسية والحزبية مما أزاح إمكانية التوافق علي مبادئ الحقوق الأساسية للإنسان المصري. إننا بعد ثورة فارقة طالبت بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة والعيش ما زلنا نتصارع حول كلمتي نعم ولا بمفهومات غامضة لا تعبر عن حقيقة المعني والمضمون; لذا نتلاسن عن مرحلة نتصور أنها تنتمي إلي العصر الحداثي والتنوير العقلي ونمارس واقعيا عدم قبول ثقافة الاختلاف بل نتعامل مع الرأي الآخر بأساليب قمعية تنتمي إلي عصر ما قبل الحداثة, فمازلنا نعيش عصر القدرية والإيمان بالفكر الرجعي والمحافظ الذي ينطلق من ثقافة الخرافة ودعم الفردية وتمجيد الماضي. والمسألة من وجهة نظري لا تنحصر في اشكالية الانحياز إلي دولة دينية أو رغبة في تأسيس دولة مدنية, أو تشكيل ما يسمي ب اسلام سياسي أو تبني توجهات ليبرالية, وإنما تكمن الإشكالية الحقيقية في كيفية التخطيط لمستقبل وطن حر يقبل بحرية البشر في عقائدهم وأفكارهم; يتجنب فيه البعد عن الشكليات والمظاهر السلوكية الضارة بالمجتمع. مستقبل تتجه فيه الدولة إلي تأسيس عقد اجتماعي جديد يحقق التنمية المتكاملة ويعمل القائمون عليه بالمشاركة من أجل تطوير إنسانية الإنسان وهو السبيل الأمثل لدعم حركة التغيير الاجتماعي الحقيقي وحل أزمة ما يعانيه المجتمع المصري من الانقسام والتشرذم القادرين علي تفتيت المجتمع وهدر امكاناته وانهيار مقوماته المادية والأخلاقية وعلي رأسها المقومات البشرية القادرة دائما علي تخطي الأزمات واستعادة حضارة وادي النيل. اختاروا كما تشاءون ولكن إياكم أن تستهينوا بانتفاضات الشعوب فستظل كلمتها الباقية ولو بعد حين. المزيد من مقالات د: احمد مجدى حجازى