وسط حالة الضبابية التي كرسها الاستقطاب السياسي في المجتمع بين التيار الإسلامي والتيار المدني, كشفت المرحلة الأولي من الاستفتاء علي الدستور عن رسائل مهمة من جانب المواطن لكل من الأغلبية التي تحكم والمعارضة ينبغي أن يعيها كلا الطرفين للخروج من الأزمة الحالية. فقد كانت الحشود الضخمة من المواطنين وبمختلف الأعمار والطبقات والفئات التي اصطفت في طوابير طويلة رسالة واضحة أن الإنجاز الحقيقي الذي تحقق من ثورة25 يناير علي المسار الديمقراطي هو أن المواطن استعاد إرادته وحريته وأنه وحده القادر علي تقرير مصيره وتحديد مستقبله من خلال الصندوق في حرية تامة,وأن محاولات الأغلبية أو المعارضة اختطاف تلك الإرادة وتفويض كل طرف لنفسه في تمثيل الشعب هي مساع خاطئ, فلا جبهة الإنقاذ تستطيع الادعاء بأنها القادرة علي حشد المواطنين أو التعبير عنهم, ولا الأغلبية آو التيارات الإسلامية هي المتحدث باسم هذا الشعب, بل إن احد أسباب إقبال المواطنين الكثيف علي الاستفتاء هو استشعار الخطر من أن حالة الاستقطاب المستمرة سوف تقود مصيرهم إلي المجهول وأنه ينبغي تصحيح ساحة التنافس السياسي من الصراع النخبوي علي السلطة إلي العودة لساحة الجماهير باعتبارها فلسفة ومحورالعملية الديمقراطية. ولاشك ان كلا من المعارضة والحكم مازال يفتقد الرشادة في ممارسة العملية الديمقراطية, فحزب الحرية والعدالة ومعه حلفائه من التيارات الإسلامية لايزال يمارس السياسة بمنطق المعارضة ولم يع حتي الآن أنه في مقعد الحكم الذي يفرض عليه العمل علي احتواء المعارضة وليس الصدام معها وعدم الانجرار إلي لعبة الحشد والحشد المضاد. كما أن ممارساتها في الحكم اتسمت بغياب الخبرة السياسية والحكمة التي تفرض عليها أن تطمئن المجتمع والنخبة وتزيل المخاوف والصورة الذهنية السلبية التي رسمها النظام السابق في توظيف تلك التيارات كفزاعة وكونها تشكل خطرا علي المجتمع سواء كانت في المعارضة أو الحكم. ولذلك فإن تبديد تلك المخاوف وإزالة تلك الصورة, التي كانت عاملا أساسيا في أزمة الثقة مع التيارات المدنية وقطاع من المجتمع يتطلب الارتكان إلي العقلانية والابتعاد عن المبارزات الكلامية, والأهم التركيز علي تحقيق الإنجاز الاقتصادي الذي يسهم في رفع مستوي معيشة المواطن وهو مايحقق لها الشرعية السياسية, وليس الشرعية الدينية, بما يمكن تلك التيارات من إذابة الجليد بينها وبين التيارات المدنية. وبالطبع فإن جنوح البعض من التيارات السلفية, والتي تمثل شريحة محدودة, إلي جر المجتمع صوب قضايا مثل فتاوي هدم الأهرامات والهجوم علي الفنانات والموقف من المصريين المسيحيين, أسهم بدوره في تكريس مخاوف التيارات المدنية. ولذلك فإن شريحة كبيرة ممن قالت لا للدستور كانت بالأساس رفضا لهيمنة وسيطرة التيار الإسلامي بمفرده علي مقاليد العملية السياسية وممارساته بعد الثورة. وفي المقابل فإن المعارضة أيضا تمارس السياسة بمنطق من في الحكم سواء في التضخيم في فرض شروطها أو في طريقة التعبير عنها, فمن ناحية فإن كثير من رفض المعارضة للدستور لم يكن اعتراضا علي مواد معينة بقدر ما هو رفض للتيار الإسلامي, ولم تدرك أن المعارضة الحقيقية ليست في رفض الآخر بقدر ما هي رفض سياساته وتقديم بدائل لها, ومن ناحية ثانية فإن المعارضة تتسم بالهشاشة فهي تضم تيارات متنافرة ومتناقضة في توجهاتها السياسية والإيديولوجية, حيث يجتمع اللبيرالي مع اليساري مع الناصري, علي هدف واحد هو مواجهة التيارات الإسلامية, وهو ما يشكل مفارقة في مفهوم المعارضة الذي تعرفه الأنظمة الديمقراطية, بل إن المعارضة المدنية التي من المفترض ان تتمسك بالصندوق والاحتكام إلي الشعب نجدها ترفض الاستفتاء في حين نجد التيارات الإسلامية المحافظة تتمسك بالصندوق والإرادة الشعبية, ولذلك فإن شريحة كبيرة ممن صوتوا بنعم للدستور كانت رفضا لمنطق المعارضة وممارستها في تسخين المجتمع دون البحث عن حلول عقلانية وعملية تساهم في تصحيح مسار التفاعلات السياسية. وبالتالي نجح المواطن سواء الذي قال لا والذي قال نعم في الاستفتاء في كشف إخفاق كل من الحكم والمعارضة في ممارسة السياسة وهو ما يدعو كلا الطرفين إلي المراجعة السريعة والعقلانية سواء في المواقف أو آليات التعبير عنها من أجل تصحيح مسار ثورة25 يناير لتحقيق أهدافها, وهذا لن يتأتي إلا بنزع فتيل الاحتقان, وتوسيع المساحة المشتركة بينهما في إعلاء مصلحة الوطن علي أي مصالح سياسية, واللجوء إلي الحوار لإزالة التشوهات وأزمة الثقة المتبادلة وحل القضايا المعقدة من خلال التوافق علي المواد الخلافية في الدستور وتوقيع وثيقة بشأنها من جانب كل الأطراف والالتزام بتعديلها مع انعقاد مجلس النواب القادم, والعمل علي استكمال بناء مؤسسات الدولة في إطار تراكمي يدفع إلي الأمام وإعادة حشد الجهود والطاقات والجدل صوب أولويات المجتمع الحقيقية في تحقيق التنمية والنهوض بالاقتصاد واستعادة الأمن والتمسك بالعملية الديمقراطية المستندة علي الإرادة الشعبية باعتبارها الضامن لتصحيح تشوهاتها ومخرجاتها, وهذه الرسالة الحقيقية التي أرسلها المواطن للحكم والمعارضة في الاستفتاء الأخير. المزيد من مقالات احمد سيد احمد