استقر الإمام الشافعي في مكةالمكرمة بعد أن قضي سنوات في البادية, وكان يجالس العلماء, وينصت لأحاديثهم, فإذا ما رجع إلي داره, كتب ما يراه مناسبا مما سمعه ووعاه. وكان ملازما للمسجد الحرام, وكان جميل الصوت. فإذا ما قرأ القرآن التف الناس من حوله, لحسن ترتيله, حتي قال بعضهم: كنا إذا أردنا أن نبكي قال أحدنا لغيره: قوموا إلي هذا الفتي المطلبي الذي يقرأ القرآن, قراءة تخشع لها القلوب. وكان يتردد علي حلقات العلم بشغف وتدبر, ومن أبرزها حلقة مسلم بن خالد الزنجي وحلقة سفيان بن عيينه.... وفرح به مشايخه الذين كان يتردد علي حلقاتهم, وقدروا مواهبه, ووصفوه بالفطانة وسلامة التفكير. وأذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي بالإفتاء وهو لم يبلغ العشرين من العمر, وكان يقول له: افت يا أبا عبدالله فقد آن لك أن تفتي. وبلغ الحال بسفيان بن عيينه أنه كان إذا سأله سائل في الحديث الشريف, التفت إلي الشافعي وقال للسائل: سل هذا, فإنه أفضل فتيان أهل زمانه. وكان في إمكان الإمام الشافعي أن يقف عند هذا الحد من العلم, إلا أن همته العالية, وعزيمته الماضية, وعشقه للعلم, كل ذلك جعله عندما بلغه خبر الإمام مالك رحمه الله وما منحه الله تعالي من علم نافع, واطلع علي كتاب الموطأ وحفظ منه ما حفظ, عندما علم ذلك, ما كان منه إلا أن عقد العزم علي السفر إلي المدينةالمنورة للقاء إمام دار الهجرة. واستعان بوالي مكةالمكرمة ليعطيه رسالة يوصي فيها الإمام مالك باستقباله, فأعطاه رسالة إلي والي المدينة لكي يتوسط له في لقاء الإمام مالك. وأخيرا وصل الإمام الشافعي وهو في حدود العشرين من عمره إلي المدينةالمنورة, والتقي بالإمام مالك وقال له: أصلحك الله, إني رجل مطلبي أي: من بني المطلب بن عبد مناف ومن حالي ومن قصتي كذا وكذا, وأخذ يقص عليه جانبا من أحواله. فلما سمع الإمام مالك صاحب الفراسة العميقة كلام الشافعي, نظر إليه وقال له: ما اسمك؟ قال: محمد. فقال له: يا محمد اتق الله, واجتنب المعاصي, فسيكون لك شأن من الشأن, وإن الله تعالي قد ألقي علي قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية. وظل الإمام الشافعي ملازما للإمام مالك زهاء عشر سنوات, يقرأ عليه الموطأ, ويرجعه في بعض المسائل, وينتفع بعلمه الغزير. وكان الإمام مالك معجبا بعقل الشافعي, وبفهمه العميق للأحكام الشرعية, وكان يقول عنه ما أتاني قرشي أفهم من هذا الفتي. وكان الشافعي رحمه الله يحترم إمام دار الهجرة, ويضعه في أسمي درجات التوقير والمحبة ويقول: مالك أستاذي عنه أخذت العلم, وإذا ذكر العلماء فمالك هو النجم الثاقب. وعندما لحق الإمام مالك بربه سنة179 ه, كان الشافعي في التاسعة والعشرين من عمره, وكان قد بلغ في العلم شأنا عظيما. *** * خلال تلك الفترة من حياة الإمام الشافعي وكان قد جاوز الثلاثين من عمره, تعرض لمحنة قاسية, ولكن الله تعالي نجاه منها, وذلك أنه خلال عمله واليا علي إحدي بلاد اليمن, وشي به الواشون بأنه من العلويين الذين ضد الدولة, فأرسل إليه هارون الرشيد, وأحضر الشافعي ومعه تسعة من الرجال اتهموا بهذه التهمة, فقتلوا جميعا, وجاء الدور علي الإمام الشافعي, ودارت بينه وبين هارون الرشيد محاورة انتهت بالعفو عنه, لقوة حجته, وسلامة منطقه ووضوح أدلته علي براءته. ويبدو أن هذه المحنة كانت سببا في تفرغه للعلم وتركه للوظائف, فقد لازم بعد هذه المحنة محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة, الذي وقف إلي جانبه في محنته, فأخذ الشافعي يدارسه في بغداد العلم, ويراجع كتبه, ويستمع إلي آرائه, وينقل عنه أفكاره, ويري فيه الإمام الفقيه المحدث. وقد قابل محمد بن الحسن هذا الأدب من الإمام الشافعي بأدب مثله, فكان يكرمه, ويفرح بمجالسته, ويقدم له عن سخاء ما هو في حاجة إليه. *** * توجه الإمام الشافعي بعد ذلك إلي مكة, وأخذ يلقي دروسه في المسجد الحرام, والتقي به أكابر العلماء في موسم الحج, واستمعوا إليه واستمع إليهم, ورأوا فيه فقيها متميزا, يجمع بين فقه أهل المدينة الذي يقوم في مجموعه علي الأثر, وفقه العراق الذي يقوم في مجموعه علي الرأي. وكان فقهه نتاج عقل ألمعي ذكي أنضجه فهمه لكتاب الله تعالي ولسنة رسوله صلي الله عليه وسلم . وقد أقام رحمه الله في مكة زهاء عشر سنوات, استوعب فيها ألوانا من العلم النافع ومن الفقه العميق, وتكونت لديه الثقافة الرفيعة من روافد متعددة, منها شيوخه وأساتذته ومنها مطالعاته وقراءاته, ومنها رحلاته إلي المدينة وإلي اليمن والكوفة وبغداد, ومنها مناظراته ومساجلاته, ومجادلاته لغيره من المحدثين والفقهاء واللغويين والمتكلمين. ولقد كان رحمه الله يؤمن بأن تعدد المصادر أمر ضروري للحصول علي العلم النافع, ويقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته, ومن كتب الحديث وحفظه قويت حجته, ومن نظر في الفقه نبل قدره, ومن نظر في اللغة رق طبعه, ومن نظر في الحساب جزل رأيه, ومن لم يصن عرضه لم ينفعه علمه. وخلال هذه الفترة الطويلة التي قضاها بمكة, علا قدره, واشتهر أمره, واتسع علمه, وتبحر في دراسة ما يتعلق بالقرآن والسنة والاجتهاد وأصول الاستنباط والقواعد الكلية في الفقه. المزيد من مقالات د. محمد سيد طنطاوي