فرضت ملابسات اللحظة وارتباكاتها نفسها علي هواجس الشارع المصري في محاولة استكشاف توجهات البابا الجديد الأنبا تاوضروس الثاني, خاصة أن وهج البابا الراحل مازال حاضرا, والمقارنات مازالت تتصدر المشهد. ربما لهذا كانت الأسئلة تتمحور حول رؤيته السياسية والملفات الملتهبة المؤرقة والملتبسة, وعلي جانب أخر كانت ثمة اسئلة حول ذلك الميراث الثقيل المتعلق بالشأن الكنسي واشتباكاته التي القت بظلالها علي خريطة الخدمة وجمعت بين إبهار الشكل بفعل إعلام موظف وبتأثير تخوفات متوجسة من تفاعيل موائمات السلطة وبين إختلالات الواقع المفارق في بعضه لكونها مترتبة علي موروث آبائي وتقليد عتيد لم يتح لهما ان يترجما علي الأرض. وظني أن الأمر يتطلب أن نفرق بين الدور السياسي وبين الدور الوطني للكنيسة, فالسياسي هو بالضرورة انحيازات لرأي أو لتيار وبالتالي هو خلق لموقف مع أو ضد, بالمخالفة لدور وطبيعة الكنيسة التي تمد مظلة ابوتها لكل الأطياف, بينما الوطني لا يعرف إلا إنحيازا واحدة هو الإنحياز للوطن. وكان موقف الكنيسة الوطني هو اختيارها علي مدي تاريخها المديد في ولادتها وحتي اللحظة المعاشة, باستثناء مرحلة ما بعد يوليو52 والتي تم فيها تأميم الشارع السياسي, بتنويعاتها المختلفة, ففي العصر الناصري وبحسب تعبير المفكر المصري الدكتور ميلاد حنا( اختزل الأقباط في الكنيسة واختزلت الكنيسة في الإكليروس رجال الدين وأختزل رجال الدين في البابا), وكان خيارا توافق عليه كل الأطراف, لتأتي مرحلة السادات لتشهد احياء للخلايا الراديكالية الإسلامية النائمة في سياق ازاحة الفكر اليساري والناصري لتفريغ المشهد من الوهج الناصري, في استغلال لحالة الإنكسار المسيطرة علي الشارع بعد هزيمة يونية67 الثقيلة والتي تم تبريرها آنئذ بأنها نتيجة البعد عن الله في تمهيد الأرض لقبول القادم البديل, فكان ان وجهت هذه التيارات مدفعيتها تجاه الأقباط وكان باكورة نشاطها العمل الإجرامي في الخانكة والذي كان تدشينا لإستهداف الأقباط, ومع توالي هذا النسق لجأ الأقباط للكنيسة واحتموا بأسوارها فولد الدور السياسي لها عنوة من السلطة الحاكمة. كانت اللحظة الفارقة مع خروج شباب الأقباط للإشتباك مع الهم الوطني في تفاعل مع شركاء الوطن من شباب المسلمين في زلزال25 يناير ليضع نقطة في اخر سطر تعاطي الكنيسة للسياسة, وينهي جملة اعتراضية طالت, وتمسك الكنيسة بطرف الخيط في تأكيدات الإنبا باخوميوس القائم مقام البطريرك آنئذ أن الكنيسة تبارك تفاعل المسيحيين مع الشأن العام بل وتشجعهم علي هذا ولكنها لا تسمح للسياسة بالتسلل مجددا إلي داخل اسوارها أو أروقتها. لهذا فظني أن البابا يأتي متخففا من العبء السياسي وان ظل ملتزما بالتكليف الوطني ومساهما إيجابيا فيه, ويصبح السؤال عن موقف الكنيسة من الملفات السياسية لا محل له, وعلي من يطرحونه أن يعيدوا توجيهه في مساره الصحيح وللمكلف بالإجابة عليه وهو السلطة الحاكمة والأحزاب وقوي المجتمع المدني باعتبار ان الأقباط ومن ثم مشاكلهم وقضاياهم العامة مسئولية الحاكم رئيسا وحكومة وبرلمانا وقضاء, وأي تقصير منهم يأتي خصما من مصداقيتهم وينعكس سلبا وخصما من مشروعيتهم. أما الشأن الكنسي فهو الأولي باهتمامات البابا الجديد وينتظره العديد من الملفات, فوفقا لمعطيات اللحظة لم يعد نسق القيادة الفردية هو الملائم, خاصة مع تزايد المسئوليات والمهام المحمل بها موقع البابا البطريرك, وهو أمر انتبهت إليه كل المؤسسات الدينية والسياسية في العالم فكان أن تحولت في إدارتها من الفرد إلي المؤسسة ونحن ككنيسة أكثر حاجة إلي هذا خاصة وأن الشخصية المتفردة الكارزمية هي نتاج عصور ولت, وقد دخلنا إلي عصر التخصص. ونشير هنا إلي أهمية إعادة هيكلة الدائرة المعاونة لقداسة البابا بما يتفق ومعطيات الإدارة الحديثة ويوظف طاقات أبناء الكنيسة ويوفر لقداسته من المعلومات والبيانات وأطروحات الحلول ما يعينه علي اتخاذ القرار الصائب. فضلا عن إعادة هيكلة أجهزة إدارة الكنيسة الأساسية والمحاور التي تقوم عليها, وكذلك الهيئات التي تحتويها; وهي في أغلبها كانت محل إهتمام التيار العلماني في السنوات الماضية, ونضعها مجددا أمام قداسة البابا لبحثها ودراستها, ونأمل أن تكون محل طرح في جلسات بحثية مع المختصين من أبناء الكنيسة للوصول إلي تصور قابل للتطبيق يجمع بين الأصالة والمعاصرة, ويصب في تطوير الإدارة والخدمة الكنسية لصالح تحقق المهام المحملة بها.ومن الملفات الحيوية مراجعة منظومة القوانين الكنسية الحاكمة لملفات اختيار البابا البطريرك والرهبنة والتعليم ومشاركة العلمانيين في ادارة الكنيسة وفق تأصيل الآباء الرسل تلاميذ السيد المسيح, وملف الأحوال الشخصية, والعلاقات البينية بين درجات الإكليروس والخدام. ولعل اختيار الانبا تاوضروس كبطريرك وبابا الكنيسة يحمل إشارات أنه رجل المرحلة لكونه أحد ابرز المنتمين لمدرسة الرائع الأنبا باخوميوس الذي ادار المرحلة الإنتقالية بكل حساسيتها ومخاطرها باقتدار وعبر بالكنيسة بحنكة ادارية ومحبة طاغية, لذلك فالأمل متعاظم ان نشهد مرحلة سلامية رغم دقة اللحظة. المزيد من مقالات كمال زاخر موسى