في واقعنا المصري لم تحظ قضية من القضايا بالاهتمام والتحليل مثلما حظت قضية الفساد الذي انتشر وبعمق وتجذر في قطاعات كبيرة من المجتمع عبر عقود طويلة. لذلك فإن التوقف أمام هذه القضية يأتي اتساقا مع تواصلنا وحديثنا عن تحليل الواقع كنقطة انطلاق لأي مشروع نهضوي جاد, نحاول التماس كل الطرق وصولا إلي حلول ناجحة وفاعلة لحشد كل مقدمات النهضة وشروطها. والحقيقة أن الدراسات التي تناولت قضية الفساد أكثر من أن تحصي أو تقدر لأن القضية كانت كما قلت شاغلة للجميع, ومن بين تلك الدراسات,دراسة مهمة أعتبرها من أفضل ما كتب في هذا الموضوع وهي لمركز العقد الاجتماعي للباحث حسين محمود حسن,وصدرت في العام الماضي. وتعرضت الدراسة بمنهج تحليلي لأسباب الفساد في مصر قبل ثورة25 يناير,حيث تناولت مفهوم الفساد وأنواعه,وحجمه, ثم أخذت بعدا مهما لتتعمق وتبحر في الأسباب التي أدت إلي شيوع الفساد في هذه العقود,وهو ما يجب أن نتوقف أمامه ونحن نتطلع إلي مصر الجديدة, مصر المستقبل, مصر الوطن النظيف. والوقوف أمام تلك الأسباب طويلا ضرورة حتي نمتلك جميعا أدوات التحصين التي تمنع من تكرار مثل هذه الظواهر والأسباب التي لابد من اجتثاثها من جذورها حتي يكون هذا الوطن آمنا من الفساد. والدراسة التي بين أيدينا- قسمت أسباب الفساد إلي ست مجموعات, منها ما يتعلق بسيادة القانون وحزمة التشريعات التي تردع الفاسدين, ومجموعة أخري تتحدث عن المقدمات التي تتعلق بالادارة العامة, وأسباب تتعلق بالمالية العامة, والمناخ السياسي والنظم التي تحكم الحراك السياسي, وأخيرا الثقافة المجتمعية. إن تحليل جملة الأسباب التي ساقتها الدراسة عمقت مفهوم ان الفساد ليس أحادي المدخل ولا يكون أيضا أحادي التأثير بل هو متعدد الأبعاد وكذلك متعدد التأثير والعواقب. وفيما يخص الأسباب التي تتعلق بسيادة القانون وافتقاده لقوة الردع, فقد رصد الباحث مجموعة من التشريعات التي كانت تصدر لخدمة ولصالح فئة بعينها علي حساب الصالح العام, فضلا عن أن تنفيذ القانون والأحكام القضائية كان يحكمه في كثير من المواقف والقضايا النفوذ السياسي والاقتراب من دوائر صناعة القرار.. وقد أضعف من قوة الردع التي يجب أن يتشح بها القانون والقضاء طول الإجراءات القضائية والقدرة المالية والعلاقات الاقتصادية, كما أن الفجوات التي تتعلق بالجانب التشريعي في حماية الشهود والمبلغين وغياب تنظيم قانوني يسمح بالوصول الي المعلومات أعطي فرصة لكثير ممن أفسدوا الحياة السياسية والاقتصادية في مصر بالهروب بجرائمهم وأضعف من الرقابة الرسمية والشعبية عليهم. وكانت غابة التشريعات المتضاربة أحيانا والمتقاطعة أحيانا أخري,مما يساعد المفسدين علي تجاوز القانون والأنظمة, ومن المعلوم أن مصر لديها أكثر من250 ألف تشريع وهي تحتاج إلي كثير من الجهد لتنظيمها وتقويمها. فيما يتعلق بالإدارة العامة فان البيروقراطية والتعقيد الزائد عن الحدود وعدم تحديد المسئوليات والمهام بشكل تفصيلي داخل الجهاز الاداري للدولة أوجد مناخا يسمح للبعض بالابتزاز أو التهرب من المسئولية, كما أتاح غياب نظم فاعلة للرقابة الفرصة للتحايل علي المؤسسات الرقابية وإغفال تقاريرها وعدم القدرة علي تحويل هذه التقارير الي أدوات فاعلة للقضاء علي كثير من الانحرافات. أما أسباب الفساد التي تتعلق بالبيئة الثقافية والاجتماعية حسبما أوضحت الدراسة فهي القبول الاجتماعي للفساد الصغير أو الفساد المستتر والنظر إليه علي أنه وسيلة مقبولة اجتماعيا للحصول علي الحقوق.. فاتخاذ الفساد مسميات متصالحة مع المجتمع مثل' الاكرامية'وشيوع منطق الواسطة والمحسوبية والتعيينات العائلية في مختلف مؤسسات الدولة في مرحلة ما قبل ثورة25 يناير.. كل ذلك سمح للمجتمع أن يتصالح مع الفساد الصغير ويأخذ نوعا من التطبيع مع الانحراف والفساد'صغيره وكبيره'. ورغم وجود منصات رقابية كبيرة وجهات متعددة لمتابعة الفساد في مصر,إلا أن فاعلية هذه الاجهزة لم تكن أبدا علي المستوي المرضي,نتيجة لغياب التنسيق بينها وعدم وجود دور مجتمعي حقيقي يعبرعن مصالح الجماهير.. كل هذا جعل من هذه الأجهزة مجرد صانعة تقارير فحسب,لا تجد دورا في القضاء علي الفساد خصوصا في ظل تركيبة البرلمانات المتعاقبة قبل ثورة25 يناير,وما أحدثه التزوير المتعمد للإرادة الشعبية في تشكيل هذه البرلمانات مما أضاع وبلاشك الدور المجتمعي في الرقابة الفاعلة والناجزة. وتذكر الدراسة أن العديد من الجهات الرقابية في مصر تنقصها السلطات القانونية التي تمكنها من أداء مهامها علي أفضل وجه.. وأنا أتفق مع الباحث في هذا الطرح. إجمالا, فإن الدراسة أسست لرؤية شاملة لمواجهة الفساد بأنواعه ومحو كافة أسبابه من قاموس الحياة المصرية,من خلال رؤيتين علي المدي الزمني القريب والبعيد,ترسي كل منهما عددا من الأعمدة الأساسية والأركان الثابتة ليقوم عليها صرح مكافحة الفساد. المبادئ الثلاثة التي تعد بداية لتعميق برنامج وطني لمكافحة الفساد هي الشفافية والشراكة المجتمعية والمساءلة, وهي الأعمدة الرئيسية التي يقوم عليها النظام المتكامل لحماية الوطن والمجتمع من آثار الفساد وعواقبه. فيما يرتفع الركن القانوني الذي يجب أن يكون شاملا ورادعا ومنفذا علي المدي الزمني المتوسط والبعيد,ويأتي الإطار المؤسسي الفاعل والذي يتطلب كفاية مالية وبشرية والتنسيق والاستقلالية, ليؤسسان معا منظومة متكاملة تواجه تغول الفساد. ولا ينفصم المحوران أوالركنان السابقان عن الإرادة بشقيها' السياسية والمجتمعية',فوجود إرادة سياسية لتطهير مصر من الفساد والمفسدين مع أخري مجتمعية حقيقية تعمل معها وتساندها بالطبع ستثمر عن حماية لموارد مصر من الاستنزاف وحماية لمستقبل هذا الوطن من أن يترك منهوبا لعصابات الفساد والمفسدين. إذن لابد للثورة المصرية من أن تتحول إلي آليات عمل وعلي كافة الأصعدة لتجعل المجتمع قادرا علي المشاركة والعمل الحقيقي علي حماية الوطن وإرساء دعائم تقدمه ونهضته.. النهضة التي نسعي جاهدين إليها برؤي علمية وركائز ومقدمات أساسية تقوم في إحداها علي قراءة الواقع المصري الحالي وتحليله.. ومن بينه' الفساد' الذي بلغ مداه ويستحق الإبادة الشاملة وفق برنامج وطني متكامل. المزيد من مقالات د.ياسر على