يمثل اختيار النظام الإنتخابي أحد العناصر الأساسية لتأسيس ديمقراطية سليمة. وأبدأ بالقول بأنه لا يوجد نظام انتخابي مثالي, وأن كل نظام ينطوي علي مزايا من جانب وعيوب من جانب آخر. وهكذا فالتفضيل بين نظام وآخر ليس اختيارا بين نظام جيد وآخر سييء, وإنما هو ترجيح لبعض المزايا في أحد النظامين علي الجوانب السلبية فيه. نقطة البداية عندي تتعلق بالحقوق السياسية للمواطن في أطار النظم الديمقراطية. فنظرا لأنه من المستحيل, وربما من الضار أيضا, الأخذ بالديمقراطية المباشرة في الدول الحديثة, فإنه لابد من أخذ بنوع من الديمقراطية التمثيلية عن طريق اختيار ممثلين عن الشعب للقيام بالوظيفة التشريعية. وبذلك تصبح الحقوق السياسية للمواطن في الانتخاب والترشيح هي نقطة البداية. فلا يمكن أن تقوم ديمقراطية مالم يتمتع كل مواطن بعد توافر شروط السن والأهلية بالحق في انتخاب من يراه مناسبا لتمثيله في البرلمان. ولكن الديمقراطية لا تقتصر علي حق المواطن في الإنتخاب بل تمتد إلي حق هذا المواطن إذ أراد أن يتقدم لنا للترشيخ في البرلمان. وهكذا فحق الإنتخاب وحق الترشيح هما من أهم الحقوق السياسية للمواطن, وحرمانه منهما أو من أحدهما هو إعتداء علي الديمقراطية. وفي ظل نظام القائمة فإن حق الفرد في الترشيح في الانتخابات يصبح مقيدا بضرورة قبول حزب من الأحزاب أو التجمعات السياسية للمرشح ضمن قائمته, ويقوم الحزب أو التجمع بتحديد موضع هذا المرشح في هذه القائمة. ولذلك فإن الأخذ بنظام القائمة, وخاصة إذا لم تتح الفرصة لنافذة الترشيح الفردي, ينطوي علي تقييد لحقوق الأفراد في الترشيح, وهي إحدي الحقوق الأساسية في الديمقراطية. وربما لهذا السبب إستقرت أحكام المحكمة الدستورية العليا علي ضرورة فتح الباب أمام الإنتخاب الفردي احتراما لحقوق الأفراد السياسية في الترشيح. لكن الترشيح للانتخابات ليس هدفا في ذاته بإمكانية الوصول إلي البرلمان, إذا كانت غالبية المقاعد في البرلمان محجوزة للانتخابات بالقائمة. ولذلك فإن الإقتصار علي فتح نافذة صغيرة للترشيح الفردي, معناها أن الأغلبية البرلمانية ستكون دائما حكرا علي مرشحي القوائم. ليس من شك أن هذا التنظيم من شأنه أن يدعم الحياة الحزبية ويساعد علي تقوية الأحزاب. ولكن الصحيح أيضا هو أن وجود الأحزاب وحيويتها ليست وقفا علي الدول التي تأخذ بنظام الإنتخاب بالقائمة بل هي موجودة وبنفس القوة إن لم يكن أكثر في الدول التي تأخذ بالانتخاب الفردي. ولعل أبرز مثال علي ذلك هو إنجلترا, وهي أقدم الديمقراطيات. وقد قام النظام الحزبي بها بدور هائل في تقدم الديمقراطية بها, ولكنها احتفظت دائما بنظام الانتخاب الفردي. المشكلة الرئيسية هي أن الأحزاب في ظل الانتخاب بالقائمة تصبح أكثر جمودا, في حين أنها في ظل الانتخاب الفردي تكون أكثر حيوية. ففي نظم القائمة تصبح أجهزة الحزب من رئاسة وأمانات الحزب هي الفيصل في اختيار مرشحي الحزب مما يضعف من تيارات المعارضة داخل الحزب. أما في نظم الانتخاب الفردي, فإن قوة مرشح الحزب تعتمد علي درجة شعبيته في دائرته. ومن هنا نجد أن الأحزاب في دول الانتخاب الفردي هي أكثر حيوية, وتظهر بها دائما أجنحة للآراء المختلفة في إطار التوجه العام, بعكس الدول التي تأخذ بنظم القائمة, حيث يسود نوع من الجمود, مما يؤدي إلي كثرة الانشقاقات. فقوة المرشح في نظام الانتخاب الفردي ترجع إلي شعبيته في دائرته ومواقفه السياسية مما يدعمه في داخل الحزب. أما في نظام القائمة فإن سند المرشح يرجع إلي مكانته في الحزب وعلاقاته مع أجهزته. ومن هنا فإن تقاليد السمع والطاعة تكون أكثر انتشارا مع الدول التي تأخذ بالقائمة. تظل الحجة الأساسية للأخذ بنظام القائمة هي الاعتماد علي مفهوم البرامج السياسية للأحزاب, وليس شعبية المرشح. فالحزب ليس مجرد تجمع لعدد من السياسيين, بقدر ما هو تبشير ببرنامج سياسي كامل للإصلاح. والنجاح في البرلمان لا يكفي أن يكون اختيارا لصفات شخصية بقدر ما هو تقديم لبرنامج شامل للإصلاح. هذا صحيح وهام. ولكن هل يمكن الفصل الكامل بين البرنامج السياسي وبين الشخص الذي يمثل هذا البرنامج؟ أليس الشخص بتصرفاته وتاريخه ومواقفه اختبارا لجدية البرنامج الذي يدعو إليه؟ ألم نر, في تجربتنا الحديثة, عضوا في حزب عقائدي يتهم ويدان لكذبه علي السلطات العامة وآخر يضبط لأوضاع مخلة, رغم انتمائهما لدعوات محافظة؟. كذلك من الحجج الأساسية لتأييد نظام القائمة الإشارة إلي أن الإنتخاب الفردي يعتمد علي الحصول علي الأغلبية المطلقة للأصوات, ومعني ذلك إهدار أصوات هامة من الناخبين قد تصل إلي ما يقرب من النصف. وهذا صحيح, وهو يصدق علي انتخابات البرلمان وكذا رئاسة الجمهورية. وهذا نقص لابد من الاعتراف به والبحث عن وسائل للتخفيف من حدته. ولكن بالمقابل, فلا ننسي أن الاخذ بنظام القوائم وهو يفسح المجال لأحزاب الأقلية بالحصول علي عدد من المقاعد يتناسب مع نسبة الأصوات المؤيدة لهم, فإنه يؤدي إلي كثرة الأحزاب السياسية وغالبا عدم الاستقرار السياسي. وفي بلد مثل بلجيكا تأخذ بنظام القائمة, فإنها تعجز في كثير من الأحوال عن تشكيل حكومة ائتلافية, وكثيرا ما تعيش في أزمات سياسية. وبالمثل فإن إسرائيل, وهي تأخذ بنظام القائمة الواحدة علي مستوي البلد, فإنه يصعب فيها تشكيل حكومة دون تمثيل أحزاب الأقليات المتشددة. وهذه الأحزاب هي التي ترجح في النهاية من يحكم, ويطلق عليه اسم صانع الملوك,Kingmaker. وهكذا, فإن الحرص علي تمثيل أحزاب الأقلية في البرلمان باتباع نظام القائمة يؤدي إلي مزيد من عدم الاستقرار السياسي وإذا كانت الانتخابات الأخيرة في مصر قد وفرت نوعا من الأغلبية, فلا ننسي أننا في بداية عصر حرية الأحزاب. وقد بدأت بالفعل مظاهر الانشقاقات والانقسامات في بعض الأحزاب. وعلي العكس فإن نظام الانتخاب الفردي يساعد علي تقييد عدد الأحزاب يتضح مما تقدم أننا بصدد نظامين للانتخاب, ولكل منهما مزايا وعيوب. ويبدو في المحصلة النهائية أن نوعا من التوفيق بينهما يحقق أفضل النتائج مع إعطاء الدور الأكبر للانتخاب الفردي. وتأخذ ألمانيا بشيء قريب من ذلك. وأخيرا, فلا ننسي أن لمصر تاريخا طويلا من الانتخاب الفردي والذي استقر في النفوس. ولذلك فنظام يعتمد علي الانتخاب الفردي أساسا لأغلبية المقاعد مع نسبة جيدة ومحدودة للانتخاب بالقائمة, قد يكون حلا وسطا معقولا. والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي