لم أتشرف شخصيا بمعرفة الدكتور حسام الغرياني رئيس الجمعية التأسيسية لكتابة دستور البلاد, أو الناشطة الحقوقية الدكتورة منال الطيبي عضو الحقوق والحريات في الجمعية ذاتها. ولكنني تابعت أداء الاثنين في ساحات عديدة باهتمام واحترام.. إلا أن استقالة الدكتورة منال, وحديث الدكتور حسام عنها يوم الثلاثاء الماضي, استلزما في نظري تعليقا ولفت نظر أوجزهما في النقاط التالية: أولا: مارست الدكتورة منال الطيبي حقا أصيلا من حقوقها حين قررت الاستقالة من الجمعية التأسيسية, وسببت استقالتها علي نحو محترم في رسالة بعثت بها إلي رئيس الجمعية, وبمسلك يتسم بالشفافية والوضوح, سواء اتفق الدكتور الغرياني مع أسباب استقالتها أو اختلف.. ولكن الدكتور الغرياني في رده الانفعالي علي استقالة منال قال انه لن يقرأ الاستقالة علي أعضاء اللجنة لأن فيها ما لا يليق بمقام التأسيسية.. والحقيقة أن ذلك الكلام فيه إجحاف بحقوق أعضاء الجمعية في معرفة الأسباب التي حدت بزميلتهم إلي الاستقالة, كما أن فيه إنكارا لحق الرأي العام في اختراق حجب الغموض, ومعرفة مبررات وحيثيات استقالة الدكتورة منال, والا فإن ما يجري هو ضرب لمنطق ثقافة الشفافية في جانب أساسي منها, وهي كما نعلم ركن ركين في البناء الديمقراطي الحر.. والتذرع بأن كتاب الاستقالة فيه (مالا يليق) هو في الواقع لون من فرض الوصاية علي أعضاء الجمعية وعلي الجمهور خارجها, إذ لاينبغي لأحد (حتي لو كان ذلك القاضي الجليل) أن يحدد للشعب, ما هو الذي يليق فيفسحه, وما هو الذي لا يليق فيمنعه.. دع الجمهور يقول رأيه, ولا تصادر ياسيادة المستشار علي حقه في التقييم.. ثم إن مسألة( يليق أولا يليق) هي مسألة نسبية تختلف فيها الآراء. ثانيا: تساءل الدكتور حسام الغرياني في معرض تعليقه الغاضب علي استقالة الدكتورة منال الطيبي (لما عندك كل تلك الاعتراضات علي الجمعية.. اشتركت من الأول ليه؟!).. وهذا الكلام أيضا خطير جدا, ويحتاج إلي اعادة نظر, فالكادر العام الكفء الذي يحترم نفسه, ويحترمه الناس لا يعتبر اختياره ودخوله الجمعية التأسيسية توقيعا علي بياض بالموافقة علي كل ما يحصل فيها, فإذا قبلت الدكتورة منال الطيبي الانضمام إلي الجمعية في البداية, ثم رأت من وجهة نظرها وبناء علي تطورات في تقييمها لبعض الأداء أو لاسهام عناصر بعينهم في التأسيسية أن هناك مايعتور هذا الأداء وذلك الاسهام, فإن من حقها الانساني( قبل المؤسسي أو الوطني) أن تغير رأيها, وينبغي علي الدكتور حسام أن يحمي حقها هذا, ويدافع عنه, لا أن يسخفها أو يسخر منها. ثالثا: قال المستشار حسام الغرياني في إيماء إلي خطاب استقالة منال: (لقد قالت في رسالتها انها ترفض الاشتراك في مؤسسات الثورة المضادة هوه إحنا أعضاء في حزب وطني واللا إيه؟!).. واسمح لنفسي أن أصحح لسيادة المستشار هذا الكلام, فالثورة المضادة لا تقتصر علي الحزب الوطني الديمقراطي, وإنما هي معني يشير إلي الوقوف في وجه تنفيذ مطالب الثورة, وإعاقة تحقيق مبادئها, سواء قام به الحزب الوطني أوغيره. كما أن المحكمة الادارية العليا أخيرا أصدرت حكما يقر حق أعضاء الحزب الوطني وقياداته في دخول الانتخابات, يعني أسقطت علي نحو كامل ونهائي منطق وثقافة العزل والابعاد والنفي والحصار طالما غابت الادانة الجنائية عن أي إنسان في هذا البلد.. وكمواطن مستقل, لم يك يوما عضوا في أي حزب من الأحزاب, وجدت نفسي مرتاحا لذلك الحكم الذي يقلل فرص الاستقطاب السياسي في البلاد, وهو مالا تساعد عليه أفكار وعبارات كتلك التي رددها الغرياني. رابعا: ضمن تفنيد المستشار الجليل حسام الغرياني لخطاب استقالة منال, ذكر أنها قالت: لقد قدمت استقالتي اتساقا مع ضميري كمواطنة مصرية, ثم علق علي ذلك الاقتباس بقوله: مش عارف يعني إيه مواطنة مصرية.. وهل الاتساق يعني الانسحاب من مؤسسات بناء الدولة..وهنا كذلك أريد مراجعة الدكتور الغرياني.. فلماذا يغضب رئيس الجمعية التأسيسية من ممارسة منال لحقها( كمواطنة مصرية) استقالت من وعاء لم تقتنع بما يجري فيه, وأعلنت رفضها لتشكيله, أو لبعض الممارسات التي تجري بين جنباته.. إن الديمقراطية تعني الاعتراف بحق التعارض, لا بل والتقاطع, وإعلان هذا الرأي عبر إجراء (هو الاستقالة) ليس فيه ما يشين صاحبه. بل فيه ما يجعله كبيرا في أنظار بني وطنه وذويه, لأنه لم يمارس ملقا أو نفاقا, ولم يستمر في مكان أحس أن ما يجري فيه لا يتفق مع أفكاره وآرائه.. والانسحاب من مؤسسات بناء الدولة ليس عيبا أو حراما, أو خطأ أو خطيئة, وإنما هو أسلوب متحضر فيه إعلان للمواقف بوضوح وعلي الملأ فالذي خرج من الجمعية التأسيسية ليس خائنا, والذي بقي فيها ليس بطلا, وإنما اختار كل منهم المكان الذي يتوافق مع موقفه. خامسا: وأتوقف أخيرا وقبل أن تدهمني محدودية المساحة أمام ما قاله المستشار حسام الغرياني عن أن التاريخ سيسطر بحروف من نور ما تقوم به الجمعية التأسيسية, وكذلك أتوقف أمام تأسفه لأن الهجوم في الصحافة علي الجمعية يأتي من داخل الجمعية, وهذا اللون من التفكير قولا واحدا ينتمي إلي ممارسات النظام المصري السابق, حين كان يبدي الرأي في أعماله مقرظا ومحبظا, وهو ما يجب تركه للآخرين من أبناء الشعب ليقيموا عمل الجمعية, ويقرروا ما إذا كان التاريخ سيتحدث عن التأسيسية بحروف من نور, أو من أي شيء آخر. لايجوز أن يمسك أحدنا بمرآة يد وينظر في سطحها مستملحا نفسه, ومصدرا ما يبدو أحكاما, غير قابلة للنقض أو الابرام.. أما حكاية أن الهجوم في الصحافة علي الجمعية, يأتي من داخل التأسيسية, فهي تدخل في قائمة الغرائب القياسية الأخري.. فالصحافة هي صحافة مصر, وليست صحافة اسرائيل, وهي أوعية للقراءة السياسية والاجتماعية والثقافية النقدية, ومن حق أي مواطن أن ينشر فيها هجوما أو مديحا عن أي من مؤسسات الدولة طالما لم يتجاوز حدود القانون, هذا إن اعتبرنا الجمعية التأسيسية إحدي مؤسسات الدولة وهي ليست كذلك, وينبغي ألا تكون كذلك. المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع