المصريون في روسيا' نبتة' كانت ولا تزال غريبة علي الارض الروسية وإن كان تاريخ ظهورها يعود الي نهاية النصف الاول من القرن التاسع عشر الذي شهد وصول شيخنا الجليل ابن الازهر الشريف محمد عياد طنطاوي الي بطرسبورج عاصمة الامبراطورية الروسية. التي استضافته للعمل في المدرسة الشرقية بجامعتها مدرسا للغة العربية. لم ترهبه قسوة الشتاء ولا وطأة هموم الغربة في زمن تباعدت فيه المسافات وخلا من كل ادوات الاتصال. ورغم كل ذلك وما يزيد, فقد كان نعم الرسول لنعم الوطن, وهو الذي كان أول عربي يترأس قسم اللغة العربية في جامعة بطرسبورج. غير ان ما تلا ذلك من احداث تباعدت مساحتها الزمنية الي ما يقرب من القرنين من الزمان, كانت فاصلا باعد بين ظهور أول مصري في أصقاع روسيا وما واكبه من أمجاد سجلها الاجداد, وبين تاريخ عودة الأحفاد الي الظهور ثانية في نفس ذلك المكان مع نهاية خمسينيات القرن الماضي عقب التقارب المصري, السوفييتي الذي دشنه الزعيم جمال عبد الناصر مع القيادة السوفيتية بسلسلة من التعاقدات والاتفاقيات في مختلف مجالات التعاون الاقتصادي والعسكري الذي فتح ابواب افضل معاهده وجامعاته للدارسين المصريين. وكان الجانب المصري قد رفض ايفاد مبعوثيه الي الجامعة التي اقامها الاتحاد السوفييتي خصيصا لأبناء العالم الثالث وأطلق عليها إسم جامعة الصداقة بين الشعوب, علي ان هذا التقارب الرسمي لم يكن مسموحا برفده بتقارب شعبي حقيقي, او بقول آخر, في غير المنعطف الرسمي الذي تمثل في البعثات الدراسية التي كانت توفدها القاهرة من المتميزين من طلابها للدراسات العليا الذين سرعان ما عادوا الي الوطن حاملين أعلي الشهادات مثل الدكتور المشد في الطاقة النووية وعدد من ابرز العلماء ممن عهد اليهم الوطن قيادة العملية التعليمية في الجامعات والمعاهد المصرية طوال العقود القليلة الماضية. ورغم ايفاد اول بعثة من اوائل الثانوية العامة عام1958 الذين وصلوا الي موسكو ولم يكن عددهم يتجاوز الثلاثين فلم تمض القاهرة لأبعد من ذلك تخوفا من وقوع صغار السن في شرك الدعاية الشيوعية. جمال عبد الناصر وبرجنيف ثم تدهورت العلاقات بين البلدين عقب تحول النظام المصري بعد رحيل عبد الناصر صوب القطب الآخر وطرد الخبراء السوفييت, في مطلع السبعينيات, ورغم التوسع في قبول الطلبة الوافدين علي المنح المقدمة الي الاحزاب والمنظمات الشيوعية ولجان السلام والصداقة والتضامن الآ سيوي الافريقي اعتبارا من سبعينيات القرن الماضي نكاية في النظام المصري الذي كان اشاح بوجهه عن موسكو في اطار سياسات التقارب مع القطب الآخر في واشنطن, فلم يكن العدد كبيرا الي الحد الذي يمكن ان يسهم في ظهور التجمع المنشود. ومع ذلك فقد ظهر آنذاك عدد لا يتجاوز اصابع اليد الواحدة من المصريين في موسكو الذين التحقوا بالعمل بموجب عقود شخصية كمترجمين ومذيعين في مؤسسات موسكو الاعلامية. ولم يكن العدد الاجمالي للمصريين في روسيا دارسين وعاملين ولا يزال, يتجاوز المائة او المائتين علي احسن تقدير. حتي البعثات التجارية ومن يمكن ان نطلق عليهم تجاوزا رجال الاعمال المصريون لم يكونوا يشكلون قوة تذكر مقارنة ب نظرائهم من البلدان العربية الاخري وكانوا يستندون في نشاطهم الي نظام الصفقات المتكافئة التي طالما سمحت لهم بتصدير منتجاتهم المتواضعة عدا القطن ومنتجاته, ولعله المضحك آنذاك ان تتكفل هذه السلع, بسداد الكثير من قيمة القروض المالية السوفييتية التي ساهمت في بناء السد العالي والكثير من مصانع الحديد والصلب والالومنيوم والترسانة البحرية وغيرها, و كانت هذه السلع عبارة عن بعض الاثاث والاحذية والبصل وسجائر كليوباترا ونبيذ جاناكليس وبيرة' ستلا', وهي السلع التي وجدت اقبالا منقطع النظير بمقاييس ذلك الزمان!!!. ولذا كان من الطبيعي ان تعيد موسكو النظر في علاقاتها الاقتصادية مع مصر اعتبارا من ثمانينيات القرن الماضي وتحديدا منذ اعلان الرئيس السابق ميخائيل جورباتشوف عن سياسات البيرسترويكا والتحول نحو اقتصاديات السوق. وهكذا نصل الي الواقع البائس الذي يقول إن عدد المصريين في موسكو لا يرقي إلي المستوي الذي يمكن معه الحديث عن جالية مصرية يمكن ان يكون لها كيان قانوني شأن الجاليات العربية والاجنبية الاخري في موسكو. ولن تجد مصريا واحدا يشغل موقعا متميزا في الاجهزة الرسمية للدولة الروسية, أو في مجال العلوم والطب والثقافة غير بعض العاملين في قناة' روسيا اليوم' الذين لن تجد ايضا بينهم مذيعا او صاحب برنامج متميز عدا الفنان المصري اشرف سرحان. ورغم كل محاولات السفارة المصرية حفز القليل من المصريين الموجودين في روسيا, ممن قبلوا الدعوة الي الاجتماع مع السفير المصري في موسكو, الي انشاء كيان نقابي يمكن ان يستظل تحته القلائل من المصريين في موسكو, فقد فشل الجميع في تحقيق الهدف المنشود!. كما ان ما تناثر من مصريين جاءوا الي روسيا هربا من وطأة البطالة وهموم الوطن, لا يمكن إلا ان يكونوا عبئا علي ذلك الوطن الذي فشلت قياداته في تحقيق ابسط احتياجاته. ولكم هو عار علي مصر الثورة وعلي القائمين اليوم علي شئونها ان يتبعثر ابناؤها علي ارصفة موسكو وعدد من المدن الروسية وفي أفنية الكنائس بحثا عن كسرة خبز, فيما يتواري آخرون بين اطلال الشقق الخالية هربا من ملاحقة الشرطة, وهو ما نستعرضه لاحقا بالكثير من التفاصيل مع اطلالة خاصة علي ما يتناثر من عراقيل من جانب المجتمع الروسي الطارد بطبيعته للهجرة والمهاجرين.