يزعم هذا المقال أن هناك بدائل للاقتراض والاستجداء من الخارج تسهم في إقامة العدل تحقيقا لأحد أهم غايات الثورة الشعبية العظيمة وتتيح تمويلا كبيرا لمشروع حقيقي للنهضة الإنسانية في مصر! بعض مضمون هذا المقال, من جزئين, نشر أكثر من مرة, كان الأولي في عام 2008 تحت عنوان مغاير وقتها, ومرة أخري في ظل حكم المجلس العسكري. وفي هذه الحقيقة دليل قوي علي أن لا شئ قد تغير في الاقتصاد السياسي لمصر منذ تحكم فيه, في غفلة من الزمن, الغر المأفون رئيس مجلس السياسات ولي عهد الطاغية المخلوع حول منتصف العقد الأول من هذا القرن. فسلطة الإخوان, تماما كما كانت سلطة المجلس العسكري, تتصرف بمنطق أمين الخزانة المهموم بأزمة مالية خانقة بدلا من منطق الدولة القادرة والفاعلة القائمة علي مشروع جاد للنهضة الإنسانية يكفل نيل غايات الثورة الشعبية العظيمة في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. لقد ظل ديدن رؤساء الحكومات ووزراء المالية في مصر في السنوات العشر الأخيرة من عهد الطاغية المخلوع, تنفيذا لأوامر أمين السياسات بحزب الحاكم المنحل, هو الشكوي من عجز الموارد والتعلل بهذا العجز عن الوفاء بحقوق الشعب, وكان ذلك الإدعاء الكاذب وسيلة خسيسة للتعمية علي النهب الفاجر الذي كانت تقوم به عصابة الحكم التسلطي, للتهرب من إقامة العدالة الاجتماعية في البلد. ومن شديد أسف أن استمرت السلطة الحاكمة بعد الثورة, وحكوماتها الذليلة المتعاقبة, في إتباع النهج نفسه. فلطالما تباري السادة رؤساء الوزارات, وزراء مالية, والمجلس العسكري بالشكوي من عجز الموارد المالية, للتهرب من إقامة العدل في المجتمع علي الرغم من أنه من أهم مطالب ثورة شعب مصر العظيمة, ملقين الرعب في قلوب الشعب من تفاقم الأزمة المالية التي يوحون بإرجاعها لقيام الثورة, غاضين الطرف عن دور نظام الرئيس المخلوع, ولجنة سياسات ولي عهده, وأخطاء السلطة الانتقالية ذاتها بعد الثورة, في تركيع الاقتصاد الحقيقي في مصر وكان مذهبهم دائما الاستجداء من الأشقاء العرب أو مؤسسات التمويل الدولية. ولا شك عندي في أن التركيز علي جانب التمويل يعبر عن مغالاة في فنيات ذهنية الرأسمالية المنفلتة والاحتكارية التي تبناها حزب الحاكم المخلوع, خاصة حرسه الجديد بقيادة ولي العهد المسمي, وجرت هذه الذهنية علي عامة المصريين ويلات التعاسة, كما أوقعت العالم كله في الأزمة المالية الطاحنة التي تؤذن بسقوط هذه الذهنية المريضة والعقيمة التي تطلق رأس المال وحافز الربح بلا حسيب أو رقيب. ومن سوء الحظ أن السياسة الاقتصادية لحكومات السلطة الانتقالية لم تبرأ من هذه الذهنية المريضة. ويقيني أن هذا الجانب الفني من أيسر المسائل, والتركيز عليه هو حجة البليد كما يقول العامة. فالقرار السياسي المطلوب لإقامة العدل, هو بيت القصيد, وعند اتخاذه يمكن حسم الأمور الإجرائية كافة, وببساطة. وفصل القول إن هذا القرار لن يتخذ أبدا ما دام منطق حزب الحاكم المخلوع ما فتئ مسيطرا علي ذهنية السلطة الانتقالية في مصر, ولو علي حساب إفقار باقي المصريين وقهرهم, فالتوجهات هذه كانت هي نقيض العدل, ومنشأ الظلم في عموم مصر. يقينا ستتطلب إقامة العدل في مصر موارد أكبر مما كان يخصصه الحكم التسلطي, ومازال, لغاية احترام حقوق المصريين كافة, خاصة في الصحة واكتساب المعرفة وفرص العمل الجيد والأمان الاجتماعي; من خلال دعم وتنمية الطاقات الإنتاجية للاقتصاد وترقية الإنتاجية, وليس اختزال الاقتصاد في بورصة الأوراق المالية كما ابتدعت عصبة مجلس السياسات; بما يؤدي إلي ايجاد فرص عمل جيدة كافية لمقاومة البطالة بفعالية; وتقديم خدمات راقية في التعليم والرعاية الصحية بما يحفز زيادة الإنتاجية; وقيام شبكة أمان اجتماعي كفء تضمن الحياة الكريمة لجميع المستضعفين, خاصة في العجز والشيخوخة المانعين من العمل. هذه المقاصد النبيلة لم يكن يتاح لها في ظل الحكم التسلطي الساقط إلا فتات موارد نظام الفساد والاستبداد الذي لم يورث عامة المصريين إلا الفاقة والظلم بينما أغدقت علي عصابة شلة الحاكم المتسلط الفاسدة وأغراضها الدنيئة فقد كانت أولويات الحكم التسلطي التي استحوذت علي نصيب الأسد في موارد الدولة صيانة أمن شلة الحكم التسلطي وحماية رأسها, أو ما كان يسمي خطأ وافتراء أمن الدولة, ولو علي حساب البطش بالمواطنين وحقوقهم, ويليه ضمان رفاهية شلة الحاكم وترتيبات اطراد احتكار السلطة والثروة فيها. وبناء عليه, فإن كثيرا من الإنفاق العام في ظل الحكم التسلطي هو إنفاق مسرف وبذخي, وبعضه بادي السفه, وجميعه منحرف عن غاية إقامة العدل إلي غرض تدويم الحكم التسلطي. وفي هذا يقع مثلا تفسير أن يزيد عدد العاملين بجهاز الأمن علي مجموع العاملين بقطاعي التعليم والصحة سويا, وأن قامت علاقة مختلة مماثلة في موازنة الإنفاق العام. بل إن هذا النمط المعوج من التصرف قد طال ثروة البلد وأصولها الرأسمالية, كما تبدي في بيع مشروعات القطاع العام بخسا وحتي بيع أرض الوطن لأعضاء التشكيل العصابي الحاكم وأيضا للأغراب من محاسيبهم وبأثمان متدنية, أعاد هؤلاء بيعها في حالات لأهل البلد بأضعاف ما دفعوا فيها. فلم تتوقف مغبة قرارات الحكم التسلطي, المنتجة للظلم, علي تبديد الموارد الدورية وإنما إمتدت إلي تبديد الأصول, فطال ظلمهم حتي الأجيال القادمة. يقدم المقال التالي بدائل محددة للاقتراض والاستجداء من الخارج تسهم في إقامة العدل تحقيقا لأحد أهم غايات الثورة الشعبية العظيمة وتتيح تمويلا كبيرا لمشروع حقيقي للنهضة الإنسانية في مصر! المزيد من مقالات د . نادر فرجانى