فارق كبير بين استلهام التراث الشعبى والسطو عليه.. فهناك من يستبيح سرقة التراث الشعبى ويضع اسمه على أعمال أدبية لم يبدع فيها حرفا واحدا باعتبارها بلا صاحب أو مجهولة المؤلف!!. أما الاستلهام من التراث فهو أن يعجب المبدع بفكرة ذات أصل تراثى ويستخدمها فى بناء نسيجه الفنى الخاص الذى يحمل بصمته وملامح أسلوبه.. ولعل من أفضل الأمثلة على الاستلهام الراقى المحترم مسرحية نوح الحمام للكاتب والمخرج أكرم مصطفى.. والذى اختار أن يبنى مسرحيته على فكرة البطل الشعبى الخارج على القانون.. والذى يفرض العدالة بقوة ذراعه ويسرق الأغنياء ليعطى الفقراء.. ويصبح فى نظر العامة والبسطاء بطلا خارقا تنسج حوله الأساطير مثل روبين هود وزورو فى الأدب العالمى وأدهم الشرقاوى وعلى الزيبق فى الأدب الشعبى المصرى والعربى.. وربما بعض حكايات جحا تحمل أيضا هذا الطابع مع استبدال عنصر القوة بالذكاء والحيلة.. بطل نوح الحمام الغائب الحاضر فى كل تفاصيل العرض هو الشاب وطنى الذى يتحاكى أهل قريته عن شجاعته وإقدامه واستهانته بالخطر، كما تتحاكى النساء عن وسامته وفحولته وتأثيره عليهن.. ولا أدرى على وجه اليقين هل قصد أكرم مصطفى من الاسم الدلالة على الوطن الذى كان غائبا فى فترة من الفترات.. المهم أن وطنى الذى يدور حوله العرض المسرحى لا يظهر أبدا.. وإنما هو محور الأحاديث ومن خلالها نتعرف على الشخصيات السبعة أبطال العرض.. وقد قسم المخرج خشبة المسرح إلى ثلاثة أقسام مستخدما بؤر الإضاءة التى أبدع فيها الفنان عمرو عبد الله ببساطة وبإمكانيات محدودة ليؤدى المعنى المقصود فى كل مشهد.. وقام الفنان فادى فوكيه بعمل ديكور شديد البساطة والذكاء لمنزل وطنى فى اليمين وحانة الساقى فى اليسار وراكية الشاى أمام الدوار فى المنتصف واستخدم عناصر بسيطة وقليلة التكاليف لكنها أوحت بالأجواء على أفضل وجه.. كما ساهمت موسيقى محمد حمدى رؤوف وأغنيات أحمد حمدى رؤوف وفاطمة عادل فى إعطاء الجو الملحمى لحكايات الجنوب وزرع لحظات التوتر والانتقال من مكان لآخر وأتمت الصورة الأزياء الجميلة المستوحاة من بيئة الجنوب والتى صممتها شيماء محمود اسماعيل.. ونأتى إلى عنصر التمثيل وهو أهم عناصر ذلك العرض الفنى الراقى حيث قدمت سوسن ربيع دور أم وطنى المرأة الصعيدية القوية أو الكبيرة كما يعتاد أهل الجنوب أن يلقبوا نساءهم الناضجات.. وهى سيدة الدار التى تتحكم فى زوجة ابنها ولا مانع من أن تعطى مساحة من الإنصات والحنان لعشيقته فى الخفاء.. بل وتساعدها وتهديها قارورة عطر من النوع الذى يحبه ابنها.. ولا تقدر امرأة فى الدار على عتابها أو مراجعتها.. فهى مصدر القوة والحنان وهى التى تقرر ما الذى يجوز وما الذى لايصح.. مساحة كبيرة من النضج الفنى اكتسبتها سوسن ربيع التى أطلت علينا فى بداية حياتها الفنية كابنة لفؤاد المهندس فى مسرحية «إنها حقا عائلة محترمة» لتزامل الأستاذ وشويكار وأمينة رزق ومحمود الجندى فى عرض واحد ثم تغيب عن الأضواء فترة وتعود إلى خشبة المسرح بقوة وحضور كبير.. وقدمت نشوة اسماعيل دور الزوجة وديدة التى يحمل اسمها أيضا دلالة على رقتها وضعفها ووداعتها فهى الزوجة المخلصة المحبة التى تدلك أن جمالها ومنبتها الطيب لا يكفيان للاحتفاظ بقلب وجسد وطنى لها وحدها وأن جارتها اللعوب تنافسها فى قلب زوجها وكأى امرأة بسيطة من الريف ترى الاستعانة بالسحر والشعوذة للاحتفاظ بزوجها أمرا مشروعا.. وعند الضرورة تتحول إلى نمرة مفترسة تكيل اللعنات لعشيقة زوجها.. أما إيناس المصرى فقدمت شخصية العشيقة الواثقة من جمالها وتأثيرها على وطنى والتى تحاول الكيد لزوجته والتقرب من والدته لعلها تحظى بدور شرعى أو على الأقل تفوز به بعضا من الوقت وتكيد منافستها.. وقد استطاعت إيناس أن تمسك بالملامح النفسية للشخصية وتؤديها بكل براعة دون أى ابتذال أو خروج على تقاليد المسرح المحترم.. وهى بالفعل ممثلة من طراز رفيع قدمت مع نشوة إسماعيل مباراة رائعة كان الفائز فيها هو الجمهور.. وقد ضم الديكور الثانى أكرم مصطفى مخرج ومؤلف العرض والذى لعب دور الرجل الضعيف المطالب بأخذ الثار من وطنى مع علمه بأنه يقل عنه فى المهارة والقوة والسرعة فى استخدام السلاح.. وهو ينتظر أمام الدوار بصبر لعله يشفى غليله أو يموت حرا أفضل من أن يعود لداره يحمل عار وخزى ترك الثأر وفقا لمفاهيم أهل الجنوب.. ولعب أحمد مجدى دورا شديد الطرافة والجمال لرجل أخرس يروى الحكايات عن قوة وفروسية وطنى.. ولا نتبين من حديثه إلا مقاطع من كلمات تظهر أن وطنى ذات يوم قتل أربعة «نوبة واحدة» ورغم اختلاج لسانه إلا أنه استطاع التعبير بجسده ووجهه ليعطى الشخصية ملامح قوية من دم ولحم.. أما الديكور الثالث فضم بطل العرض الفنان المبدع ياسر عزت الذى يلعب دور رجل القانون الضابط القاسى الذى يضطر لاستخدام القوة لأن الواقع يفرض عليه ذلك وهو فى الحانة يشرب الخمر بشراهة ثم يكتشف أنه يريد أن ينسى ضعفه وتخاذله عن أداء واجبه وهزيمته أمام ذلك الشاب حتى فصل من عمله.. ولكنه لا يستطيع أن يواجه المجتمع بأنه قد صار ضابطا مفصولا وضاعت من يده قشرة القوة التى يظهر بها أمام الناس وقام إبراهيم البيه بدور الساقى الذى يجاذب الضابط المفصول أطراف الحديث ومن خلاله نتعرف على ملامح القصة.. نوح الحمام حالة فنية خاصة يقدمها مسرح الطليعة مستكملا دوره الحيوى فى تقديم نماذج مختلفة وراقية من فنون المسرح الشبابى وهى نوعية عروض تستحق أن تستمر لأكثر من ثلاثين ليلة مثل «روح».. «وكأنك تراه».. وغيرها من التجارب الفنية الناضجة.