يقول الوحى الإلهى فى التوراة: قال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وطير السماء، وعلى البهائم، وعلى كل الأرض (تك 1: 26)، لكن لم يقل الرب إنه خلق الإنسان ليتسلط على أخيه الإنسان، ولا لكى يؤذيه ويعذبه. فإن مشكلة الإنسانية هى الإنسانية نفسها، فالقتل والسرقة والخيانة والحروب والمجاعات والفقر هى من صنع البشر. ولكن أخطر ما فى الأمراض البشرية هى محبة السلطة والتلذذ بقهر الآخر والشعور بالسيادة على الآخرين، فكل هذا نابع من مرض نفسى. وتلك التصرفات قد تصل إلى حد عبودية شخص لآخر، وهى قمة الانحطاط الأخلاقى والفساد البشرى، فيقول نيلسون مانديلا: الرجل الذى يحرم رجلاً آخر من حريته هو سجين الكراهية والتحيز وضيق الأفق. وفى تاريخ البشرية قصص لهؤلاء المرضى الذين كانت لهم أساليب شريرة تفوق عمل الشياطين أنفسهم. وكتب سلومون نورثوب قصة هى تجربة ذاتية فى قصة اثنى عشر عاما من العبودية حكى فيها ما حدث له فيما بين عام 1841-1853م، فقد ولد سلومون فى ولاية منيرفا، ويقول إن أسلافه كانوا عبيدا عند إحدى العائلات، ولكن نبيل العائلة حين مات أوصى بعتق والده وبهذا صار حرا. وكبر سلومون وتزوج وأنجب ثلاثة أبناء. وتقابل ذات ليلة مع رجلين عرضا عليه العمل فى واشنطن بأجر مغر فوافق فورا، وذهب معهما. وأخذه الرجلان إلى واشنطن وبعد وجبة العشاء شعر بدوخة ثم أفاق على كابوس فقد وجد نفسه مكبلا بالأغلال فى مكان مظلم تحت الأرض. وفتح الباب ودخل رجل ضخم عرف فيما بعد أنه تاجر رقيق، وحين عرف سلومون ذلك قال له: إنه أسود اللون ولكنه حر، فقام بجلده وضربه ثم رحله مع مجموعة أخرى فى سفينة لسوق العبيد وجردوهم من ملابسهم. واشتراه كاهن بروتستانتى، ثم باعه مع عبيد آخرين بعدما ساءت حالته المالية ليشتريه رجل آخر لا يحمل فى داخله رحمة ولا أخلاقا، فكان يجعل عبيده يعملون النهار والليل ولا يحق لهم الراحة. ويقول سلومون أنه كان يعود كل ليلة محملا بآلام جسدية ونفسية فقد كان قانون أمريكا يعطى الحق للسيد أن يفعل أى شيء فى جسد العبد ويمارس عليه أى استبداد جسدى ونفسى ولا يحق للعبد أن يتكلم أو حتى يتألم. ثم بيع إلى سيد آخر يقول عنه أنه لم يكن يمر يوم دون أن يجلده مرة واثنتين. ومضت عشر سنوات وهو يعيش العبودية لأسياد هم بشر مثله ولكنهم مرضى أغنياء فى عالم تُكتب أحياناً القوانين لمثل هؤلاء ولا حياة ولا حقوق للفقراء، فأقصى ما يحلمون به هو إشباع المعدة والنوم دون جروح فى الجسد أو إيذاءً للنفس. وبيع سلومون لسيد آخر يعمل فى دبغ الجلود وأول ما اشتراه جعله يركع ويعرى ظهره وقال له: سأجرب طريقة لدبغ الجلود على ظهرك وألهب جسده بسياط فى يده حتى صار ظهره كله لونه أحمر من الدم. وكانت صلاة هذا العبد أن يعجل الرب بموته، فالقبور لهؤلاء هى راحة يشتهونها، وسكنى ديار الموت أفضل من السكنى وسط أحياء متوحشة. ولكن كانت استجابة الرب أن أرسل له صديق لسيده وجد فيه قلبا طيبا فاستطاع أن ينفرد به وأعلمه أنه يحمل أوراق تثبت أنه ليس عبدا وطلب منه أن يكتب رسائل لعائلته ليتحركوا فى إجراءات عتقه. وهذا ما حدث بالفعل، وما إن وصلت الرسائل لعائلته حتى أقاموا محامين وذهبوا إلى واشنطن واستصدروا قرارا من حاكم الولاية بالعتق، وذهبوا إليه وأعادوه إلى عائلته. ولعلك تظن عزيزى القارئ أن العبودية قد انتهت بقوانين ومواثيق الأممالمتحدة، الحقيقة العبودية لا تزال قائمة مادام هناك مرضى الذات والسيادة. فالعنصرية هى نوع من أنواع الشعور بالسيادة على الآخر. وحين تقوم بلد بحربٍ على بلد أخر لتركيعه وتجويعه أليست هذه عبودية؟ وحين يمارس صاحب عمل أمراضه النفسية على عماله أو مرءوسيه ليقهرهم ويسحقهم ويدمرهم نفسيا ليعودوا محطمين وفاقدى الأمل فى الحياة الكريمة أليست هذه عبودية؟ أو يمارس صاحب سلطة أمراضه النفسية فى القهر والذل للضعفاء والذين لا حول لهم ولا قوة أليست هذه عبودية؟ كما توجد عبودية أخرى وهى عبودية الأفكار يمارسها بعض الأشخاص الذين يوهمون آخرين أنهم أصحاب الحق المطلق وعلى التابعين ألا يفكروا بل ينفذون الأوامر فقط، كما فعلت داعش فى مسح عقول كثيرين تحت ستار الدين واستعبدت العقول والنفوس وحولتهم لآلات تدمير للشعوب واستعبادهم. وإن كانت داعش فعلت هذا فى عصرنا فهناك عبر العصور دواعش الفكر والدين. ففى القرون الوسطى حتى عصور ما يسمونها بالتنوير كانت الكنيسة الغربية تمارس هذا النوع من عبودية الفكر، وفى قصة طريفة ذكرها هاينريش هاينى فى كتابه تاريخ الدين والفلسفة عن الرعب الدينى الذى كان سائداً حين ذاك، يقول عام 1437م كان بعض رجال الدين يقومون بنزهة فى إحدى غابات مدينة بازل، وكانوا يتحادثون فى أمور روحية ولاهوتية، وسمع الجميع طائرا مغردا جميلا فوق شجرة زيزفون وكان صوته عذباً حتى أن الجميع صمت وأنصت للطائر المغرد. وسارت فى نفوس الكل بهجة وسعادة إلا واحداً منهم الذى صاح فى وجوههم: إن هذا الطائر ما هو إلا روح شريرة، وهذا شيطان أراد أن يفسد كلامنا ويجذب الأنظار إليه. وتقول القصة التى بالطبع كانوا يسوقونها لكى يستعبدوا العقول أن الطائر اعترف فعلاً بأنه شيطان وأن كل الذين سمعوا واستعذبوا ألحانه ماتوا على الفور، ياللرعب والجهل. إن هذا الخطاب الدينى هو طريق كل الدواعش عبر العصور لعبودية العقول، وتختلف أنواع العبودية ولكن كلها تخرج من أشخاص ذاتهم مريضة صاغوا مفردات حياتهم ووجودهم حول أنفسهم فقط، فلم يهتموا بالآخر ولا بآلامه، بل كانت عبوديتهم للآخرين سر سعادتهم لأنهم كانوا مرضى السيادة. لمزيد من مقالات القمص أنجيلوس جرجس