كيف سيصبح عالمنا؟ وماهو مصير الإنسانية التى تغرق فى الكراهية وعدم القدرة على العيش معا؟ وهل ستنتهى الحضارات فعلا ؟ وهل يمكننا تجنب ذلك؟ ..تساؤلات يطرحها ويجيب عنها الكاتب والمؤرخ والأكاديمى اللبنانى الفرنسى أمين معلوف فى كتابه الأخير «غرق الحضارات» الذى يحلل فيه أحداث نهاية القرن العشرين، وكيف حجب ذلك دخولنا إلى القرن الحادى والعشرين. فلم يعد ما يتردد حول كون التهديد الأكبر هو ما جاءت به أطروحة «صدام الحضارات» للأمريكى صموئيل هنتنجتون، بل إن سفينة الحضارة نفسها تغرق والبشر يسرعون من عملية غرقها بدلا من إنقاذها. كما يقول « المفارقة المؤسفة لهذا القرن: لأول مرة فى التاريخ ، لدينا الوسائل لتخليص الجنس البشرى من كل الأوبئة التى تهاجمه ، لقيادته بهدوء إلى عصر الحرية ، تقدم لا تشوبه شائبة ، وتضامن كوكبى وثراء مشترك. وحتى الآن نحن نعمل بأقصى سرعة على المسار المعاكس». بعد تنبؤاته وتحليله فى كتابه السابق «الهويات القاتلة» الذى استنكر فيه ميل المجتمعات المعاصرة إلى أن تصبح محصورة فى هويات مفردة ومختزلة أدت إلى حروب الهوية التى يشنها الناس اليوم فى جميع أنحاء العالم، يعتبر معلوف أن غرق الحضارات بطريقة ما هو الجزء الثالث من «الهويات القاتلة». فقد أصبح معلوف مقتنعا اليوم بأننا على عتبة حطام سفينة عالمى ، والذى يؤثر على جميع مجالات الحضارة. أمريكا ، رغم أنها لا تزال القوة العظمى الوحيدة ، تفقد كل مصداقيتها الأخلاقية. وأوروبا ، التى عرضت على شعوبها ، وكذلك لبقية البشرية ، أكثر المشاريع طموحاً وراحة فى عصرنا ، تتفكك. ويغرق العالم العربى والإسلامى فى أزمة عميقة تغرق شعبه فى اليأس. المشهد العالمى سييء جدا حيث يسود قانون الأقوي. سباق تسلح جديد يبدو لا مفر منه. ناهيك عن التهديدات الخطيرة (المناخ ، البيئة ، الصحة) التى تؤثر على الكوكب والتى لا يمكن أن نواجهها إلا من خلال تضامن عالمى نفتقر إليه بالتحديد. «من وطنى ، بدأ الظلام ينتشر فى جميع أنحاء العالم..فالظلام قد انتشر فى جميع أنحاء العالم عندما انطفأ تنوير بلاد الشام».. هكذا يؤمن معلوف مستهلا كتابه برحلة ذاتية تعكس رؤيته لبعض الأحداث التاريخية منذ ولادته فى عام 1949 إلى يومنا هذا، فبرغم انتقاله للاستقرار فى فرنسا فإن قلبه وعقله مازالا فى المشرق العربى لا يبارحان لبنان ومصر، التى ولد بها مستعيدا لحظات مضيئة من التعايش بين المجتمعات الدينية ، فى وقت من حسن الجوار ، مجتمع منفتح على التنوير. كل شيء تغير فى بضع سنوات، مضيفا « إذا كان مواطنو مختلف الأمم وأتباع الديانات التوحيدية قد استمروا فى العيش معًا فى هذه المنطقة من العالم من أجل إلهام وتنوير مساره ، كان أمام البشرية جمعاء نموذج بليغ للتعايش والازدهار المتناغم. لسوء الحظ ، حدث العكس ، فقد أصبحت الكراهية هى السائدة ، وأصبح عدم القدرة على العيش معًا هو القاعدة. انطفأت انوار المشرق. ثم انتشر الظلام فى جميع أنحاء الكوكب. ومن وجهة نظرى ، ليست مجرد صدفة». يخشى صاحب كرسى كلود ليفى شتراوس فى «الأكاديمية الفرنسية» أن يرى التدهور الذى انتشر فى جميع المجتمعات البشرية ، بدءاً من تفكك بلاد الشام. ويشكك فى إمكانية الوحدة ويميز «العوامل التى ترسخها والعوامل التى تفتتها»، مقيما تجربة الرئيس جمال عبد الناصر والأخطاء التى ارتكبها فى محاولته لإرساء الوحدة العربية. ويعتبر أن النقطة المحورية فى تاريخ المنطقة كانت خسارة العرب لحرب 1967 وانتصار إسرائيل حيث لم تستفق مصر والدول العربية من هزيمتها تلك ولم تتمكن من تجاوزها « العرب كانوا ضحية الهزيمة وإسرائيل كانت ضحية الانتصار». يتحمل العالم العربى نصيبه من المسئولية فى نظر صاحب «اختلال العالم»، داعيا إلى التشكيك فى «الآثار الضارة للعداء للشيوعية كما تمارس فى العالم العربى الإسلامى فى حقبة الحرب الباردة. لقد قوض فى كل مكان من فرص التحديث الاجتماعى والسياسى ، فى كل مكان كان يؤجج فيه الاستياء ويمهد الطريق للتعصب والظلام .ويسلط الضوء على انعكاسات انحراف الأديان تحت تأثير قوة السلاح والمال ، وهو ما يصفه ب«الألوهية الأخري» التى لا يمكن للبشرية التخلص منها. يرى صاحب «الهويات القاتلة» أن « لا أحد يؤمن بمستقبل أفضل ، الناس خائفون ، لا يثقون فى بعضهم البعض مختلفون ويميلون إلى الاستماع إلى (مخربين غريبين) أو لخفض حرياتهم من أجل حياة قاتلة أكثر أمانًا، فى هذا العالم المتدهور لا يبدو أن أى دولة أو مؤسسة أو نظام قيم أو حضارة قادرة على التغلب على هذا الاضطراب دون ضرر. من الصعب على أن أؤمن بأن الإنسانية ستستسلم طاعةً لإبادة كل شيء صنعته. ومازال لدينا فرصة للإنقاذ بشرط نسيان «تلك المفاهيم القبلية للهوية أو الأمة أو الدين» التى تقوضنا ، والتوقف عن تمجيد «الأنانية المقدسة» التى تقود العالم اليوم إلى الخراب».
Le naufrage des civilisations. Amin Maalouf. Grasset. 2019