شكل الاتحاد الاوروبى تجربة فريدة فى النظم الاقليمية التى تنضم فيها عدة دول تجمعهم مبادئ متفق عليها واشكال من التعاون التصاعدى الذى يحقق مصالحهم بصورة جماعية، ويوفر لهم كوحدة واحدة قدرا من النفوذ السياسي والاقتصادى فى مواجهة الكتل والدول الأخرى المنافسة. وطوال التجربة الأوروبية الساعية نحو الوحدة ونحو نظم وقوانين ومعاهدات واحدة وسياسة خارجية واحدة واستراتيجية دفاعية موحدة، والتى تحقق منها الكثير، كثيرا ما كانت المقارنات بين الحالة الأوروبية والحالات الأخرى تصب لصالح أوروبا باعتبارها التجربة القادرة على تذويب الخلافات ووضع أسس تفاوضية لحل أعقد المشكلات التى تثور بين الأعضاء، وتأكيد التلاحم الداخلى والتضامن مع الدول الاعضاء الذين قد يواجهون مشكلة اقتصادية أو مالية تتطلب العون من مؤسسات الاتحاد الاوروبى كما حدث مع اليونان وايطاليا وإسبانيا، فضلا عن تقديم الدعم الى الدول الفقيرة كما هو الحال مع الدول الاعضاء من اوروبا الشرقية الاقل تقدما اقتصاديا مقارنة بدول أوروبا الغربية. هذه التجربة الثرية معرضة الآن لنوع من التفكك والانقسام والانهيار، وهذه التعبيرات القاسية ليست من عند الكاتب بل هى التعبيرات التى استخدمها وزير الخارجية الفرنسى جان ايف لودريان تعليقا على استقالة رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماى معتبرا أن أوروبا مهددة بالخروج من التاريخ. التفكك والانقسام والانهيار بهذا المعنى ليس مرهونا وحسب بخروج بريطانيا بل بعدد آخر من المشكلات والتوجهات الصاعدة داخل المجتمعات الاوروبية نفسها، فضلا عن محفزات خارجية تعمل على خلخلة الوحدة الاوروبية تأتى من سياسات الرئيس ترامب المناهض لكيان أوروبى قوى، والنفوذ الروسى المتنامى والصعود الاقتصادى الصينى والتوتر المتزايد فى الشرق الأوسط. وهكذا تتفاعل محركات أوروبية ذاتية وأخرى خارجية دولية تجعل مشروع الوحدة الأوروبية محل تهديد. والمتفق عليه أن الخروج البريطانى سواء تم باتفاق ينظم الخطوات والأعباء المتبادلة، أو بطريقة فوضوية لا تحدد أى شىء وتترك الأمور تسير دون ضابط أو رابط، فإنها ستؤدى إلى تراكم الكثير من المشكلات والقضايا القانونية والمالية الاقتصادية التى تضر ببريطانيا وبدول الاتحاد الأوروبى معا، وسيكون لها تأثير مباشر على حالة الاقتصاد الدولى. والخروج البريطانى من شأنه أن يقدم نموذجا عمليا للانسلاخ من منظومة أوروبية تعطى المركز الاوروبى فى بروكسل صلاحية تحديد المسارات والأولويات الجماعية بغض النظر عن أولويات الدول فى العديد من القضايا وليس كلها، لاسيما القضايا التى تراها بعض الدول مؤثرة على أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية مثل قضية المهاجرين، وهو الأمر الذى يجد معارضة كبيرة ومتنامية فى العديد من الدول الأوروبية التى تشهد صعودا للتيارات والأحزاب الشعبوية المناهضة للفكرة الاوروبية وفقا لمسارها الراهن، وهو ما يظهر فى فرنساوإيطاليا وهولندا وبلجيكا وألمانيا والدنمارك وبولندا والمجر. وفى الحملات الانتخابية الأخيرة لانتخابات البرلمان الأوروبي التى جرت قبل يومين، كثفت الأحزاب اليمينية تحالفاتها من أجل الفوز بأكبر نسبة من عضوية البرلمان بهدف إحداث تغيير فى الآليات الأوروبية من داخل أهم مؤسساتها التشريعية. ومن أبرز هذه التحالفات «مجموعة أوروبا الأمم والحريات» بقيادة ماتيو سالفيني وزيرداخلية إيطاليا ورئيس حزب الرابطة الإيطالية، واهم ما يدعو اليه هو تحقيق تغييرات جوهرية تضمن حريات وسيادة الدول الاوروبية وتفادى أوامر بروكسل. ويتوافق فى المسعى ذاته حزب البديل فى ألمانيا والحزب الشعبى الدنماركى، وحركة النجوم الخمس الايطالية، إضافة الى مجموعات تشكك فى جدوى الاتحاد الاوروبى ويعرفون «بالاصلاحيون الاوربيون» وتضم حزب المحافظين البريطانى وحزب القانون والعدالة الحاكم فى بولندا. واللافت للنظر أن ستيف بانون المستشار السابق للرئيس ترامب وأحد منظرى الشعبوية القومية يشارك كثيرا فى اجتماعات هذه الأحزاب الشعبوية، ويدعم أفكارها الساعية إلى هدم الوحدة الأوروبية وإعلاء الاعتبارات الوطنية والمحلية على القواسم الأوروبية والمصالح الجماعية. ومن المبادئ التى تدعو إليها هذه التحالفات اليمينية؛ تغيير أوروبا وإعادة هيكلتها، العودة إلى الدول القومية وسيادتها، لا أولوية للمركز الأوروبى على المراكز الوطنية، القرار الوطنى هو المعيار، وكلها تدعو إلى أن يصبح الاتحاد الأوروبى بمثابة منظومة منزوعة الهيمنة على الحكومات الوطنية، وأن تتحول الهيئات الأوروبية الى مؤسسات استشارية وحسب، وهو تغيير إن تم سيفقد الاتحاد الأوروبى نفوذه المعنوى والسياسى والاقتصادى ويحوله إلى مجرد منتدى سياسى، وسيؤدى الى زيادة التوتر والتباين الاجتماعى فى الدول الأوروبية الشرقية، ويعرض الجميع الى تهديدات أمنية غير مسبوقة. والوصول الى هذه الحالة ليس بالسهولة بمكان، وسيتطلب مدة زمنية طويلة وأهم شروطه أن تسود التيارات اليمينية فى عموم الدول الأوروبية خاصة الكبرى منها والتى تقود الاتحاد الاوروبى كألمانياوفرنساوإيطاليا وهولندا وإسبانيا، وأن تسيطر القوى الشعبوية على المؤسسات التشريعية والتنفيذية ومن ثم تفرض خططها على الواقعين المحلى فى بلدانها والأوروبى بشكل عام. وتلك بدورها معركة تاريخية تدور بالفعل خطواتها الاولى فى أيامنا هذه. مع الاخذ فى الاعتبار ان القوى المناهضة لليمين المتطرف ليست ضعيفة حتى بالرغم من بعض المشكلات التى تعتريها الآن، والتى تقاوم هذه التوجهات الشعبوية بقوة وتبرز مخاطرها. فى ظل هذا السياق الصراعى بين مؤيدى الاتحاد الأوروبى والكارهين له تبدو أهمية الخروج البريطانى كحالة تطبيقية للثمن الذى سيدفعه الطرفان، ومجمل العوائد التى ستحصل عليها بريطانيا والتى قد تغرى أطرافا أوروبية أخرى للسير فى النهج ذاته. وحتى اللحظة فإن الفوضى السياسية وعدم اليقين الاقتصادى هما العنوانان البارزان فى بريطانيا، فضلا عن أن وحدة أراضى المملكة المتحدة معرضة للتفتت إذا ما أصرت إيرلندا الشمالية على البقاء فى الاتحاد الأوروبى بغض النظر عن طريقة الخروج البريطانى. وفى عمق اتفاقية الخروج التى فشلت ماى فى تمريرها عبر البرلمان البريطانى الكثير من الأعباء المالية لعقدين على الاقل، والكثير من القيود على تفاعلاتها التجارية مع باقى دول الاتحاد، ولا يتحمل ذلك إلا اقتصاد قوى ومستقر، تتوافر الكثير من عناصره لدى بريطانيا بشكل عام فى حين تفتقدها دول اوروبية اخرى تتنامى فيها مشاعر الكراهية للاتحاد الأوروبى، وبالتالى يصعب عليها تحمل أثمان الخروج فى المستقبل وفقا للنهج البريطانى. الأمر الذى يدفع بساستها اليمينيين الى تفضيل هدم الاتحاد الأوروبى من داخله باعتباره الخيار الأكثرملائمة لواقعها الاقتصادى. لمزيد من مقالات د. حسن أبوطالب