إذا اتسم الإرهاب بالجماهيرية فيلزم أن يكون الترياق جماهيرياً. والمقصود بالجماهيرية هنا هو رجل الشارع. ومن هنا يلزم تناول الجماهيرية ورجل الشارع فى آن واحد. وهذا هو ما قام به الفيلسوف الإسبانى أورتيجا إى جاسيت فى كتابه المعنون «تمرد الجماهير»، حيث ارتأى أن رجل الشارع هو أهم ظاهرة فى هذا الزمان. ثم تساءل باستخفاف: من أنتج هذا الرجل الذى يتحكم اليوم فى الحياة العامة؟ ويجيب بأن الذى أنتجه هو القرن التاسع عشر وذلك بسبب النزعة التكنولوجية، وهى نزعة ثورية لأنها تؤسس لنظام جديد يبرز فيه رجل الشارع المتميز بخاصتين: التمدد الحر لشهواته الحيوية مع احتقاره لكل مَنْ أبرزه. ومن هنا قيل عنه إنه طفل مدلل. ومن هنا أيضاً قيل عنه إنه عدو الثورة العلمية والتكنولوجية. وبناء عليه فإن الرعب تولد من هذا الرجل. والمفارقة هنا أن هذا الرعب كان قد تولد بعد إعدام سقراط إذ هرب تلميذه أفلاطون من أثينا. والسؤال بعد ذلك: هل فى الإمكان إزالة ذلك الرعب؟ أو فى صياغة أخري: هل فى الإمكان إزالته فى العصر السيبري؟ ونجيب بسؤال:ماذا يعنى العصر السيبري؟ فى البداية أجيب بسؤال: ماذا يعنى لفظ عصر؟ إن هذا اللفظ مردود إلى تقسيم الحضارة الإنسانية إلى عصور متباينة ولكنها تشترك فى غاية واحدة وهى الانتقال من الفكر الأسطورى إلى الفكر العقلانى فى سياق التقدم. ثم قيل عن هذا التقدم إنه تكنولوجى غايته إقصاء الأسطورة واستدعاء العقل. إلا أن عملية الإقصاء لم تكن بالأمر الميسور إذ كانت محفوفة بالمخاطر التى واجهها كبار الفلاسفة والعلماء الذين تميزوا بالجرأة فى إعمال العقل، وفى الجرأة فى القول بأن العقل الانسانى ليس فى مقدوره قنص المطلق ومن ثم الاكتفاء بما هو نسبي. ومن هنا جاء تعريفى للعلمانية بأنها التفكير فى النسبى بما هو نسبى وليس بما هو مطلق، فى مقابل نقيضها وهو الأصولية التى تعنى التفكير فى النسبى بما هو مطلق وليس بما هو نسبي. ومن هنا أصبحت الأصولية فرعاً من الدوجماطيقية التى تعنى توهم العقل أنه قادر على قنص المطلق. وقد ظل هذا الوهم قائماً فى عقل الجماهير ثم استغلته الأنظمة الديكتاتورية فى منع الجماهير من التفاعل مع العلمانية، ثم ازداد قوة فى هذا العصر السيبري. والسيبرى هنا مشتق من لفظ سيبرنطيقا، وهذا اللفظ بدوره مشتق من لفظ يونانى معناه ربان السفينة، أى الحاكم. وقد صك مصطلح السيبرنطيقا عالم الرياضة الأمريكى نوربرت وينر. وبفضل هذا العلم تمت صناعة الكمبيوتر. إلا أن هذا العلم قد دلل على أن الحتمية المستندة إلى مبدأ العلية هى فى موضع شك، ومن ثم أصبح مبدأ اليقين فى موضع شك. وكان مبدأ اللايقين هو البديل، وهو يعنى طغيان الاحتمال، ومن ثم لم يعد من حقك القول: إنه من المؤكد, إنما من حقك القول: إنه من المحتمل, على أن تكون على وعى بأن هذا المحتمل يقاس بدرجة ما يحدثه من نتوء فى مسار أى ظاهرة. وفى هذا السياق يلزم تغيير مفهومنا عن الزمان لأن الحتمية مستندة إلى مبدأ العلية الذى يعنى أن لكل معلول علة، أى يعنى أن كل ما يحدث فى المستقبل هو تكرار لما حدث فى الماضي، ومن هنا قيل لا جديد تحت الشمس. أما وقد انهارت الحتمية ومعها العلية فقد أصبحنا فى انتظار الجديد. وإذا كان الجديد يعادل الإبداع، فالإبداع إذن هو سمة العصر السيبري، وهذه السمة بدورها هى القاتلة لجرثومة الدوجماطيقية. إلا أن رجل الشارع فى هذا العصر السيبرى ليس قادراً على المشاركة فى قتل هذه الجرثومة، ومن ثم فإنه يظل محكوماً بالدوجماطيقية وبالتالى يكون مدعماً لظاهرة الأصولية الدينية بحيث تصبح هذه الظاهرة جماهيرية. وهذا هو الوضع القائم فكيف يمكن استدعاء وضع قادم يسمح بإقصاء الوضع القائم؟ ونجيب بسؤال: ما سمة هذا الوضع القادم؟ يلزم أن يكون بداية عصر تنوير ثانٍ بعد عصر التنوير الأول الذى كان مخصصاً للنخبة. إلا أن هذا التخصيص يلزم تجاوزه بحكم جماهيرية العصر السيبري. ومن هنا يكون التنوير الثانى أمراً لازماً لكى يدخل رجل الشارع فى علاقة عضوية معه. إلا أن هذا الدخول لن يكون بالأمر الميسور. وهذا ما أكده فرويد فى كتابه المعنون «سيكولوجيا الجماعة وتحليل الأنا» حيث حلل سلوك الجماهير وسلوك الزعيم فارتأى أن من شروط بزوغ الزعيم أن تكون القيم مهزوزة وأن يكون المجتمع فى حالة فوضي، ومن ثم يتم استدعاء الزعيم ويكون من خصائصه اعتقاده أنه على يقين مما يقوله ويفعله، وبالتالى يكون اعتقاده أنه مالك للحقيقة المطلقة. أما الجماهير فيشترط أن يكون لديها الوهم بأن الزعيم يحبها ويعاملها بعدالة. وفى هذا السياق ارتأت الفيلسوفة اليهودية هنَا أرندت فى كتابها المعنون «أصل الشمولية» أن ستالين كان قد اصطنع تأسيس مجتمع جماهيرى لكى يكون أساساً لنظامه الديكتاتورى الذى كان مؤلفاً من حاكم مسلح بإرهاب مطلق وجماهير مستسلمة لذلك الإرهاب وليس بينهما أى وسيط. ومع شيوع القنوات الفضائية فى العصر السيبرى ومع غياب التنوير الثانى يكون من الميسور اعتناق الجماهير لمكونات الأصولية أيا كانت ملتها الدينية، وبالتالى يكون من الميسور أن تكون إرهابية. ومع ذلك فأظن أن ثمة ترياقاً قاتلاً للإرهاب يتجسد الآن فى عصر الرئيس عبد الفتاح السيسي. فالجماهير هى التى استدعته لكى يكون رئيساً لمصر، وهو بدوره دخل فى علاقة معها فى سياق التنوير الثانى ولكن من غير إعلان. لمزيد من مقالات د. مراد وهبة