في الأيام القليلة الماضية انهمكت في اعداد ورقة خلفية عن حقوق الانسان في العراق للتقرير السنوي لاحد المراكز المعنية, ورغم ان متابعة الوضع العراقي يكاد يكون خبزي اليومي. الا أني وبعد ان انتهيت من جمع المادة البحثية راعني ما وجدته أمامي من معلومات وتفاصيل عن الانتهاكات والتجاوزات التي قارب البعض منها حدود الوحشية الضارية. علي المستوي النفسي ما شعرت به لم يكن الوجوم والألم فقط, وانما الخذلان والحسرة علي تلك السنين التي أضاعها عراقيون كثيرون مثلي في مقارعة نظام صدام حسين الدكتاتوري, أما علي المستوي الفكري فكنت أجد ان التاريخ يروي قصة جديدة من قصص الانتكاسات وخيبات الأمل التي لحقت بالكثير من الثورات والانتفاضات وفرص التغير في العالم.اعلم أن للتجربة العراقية خصوصيتها, ابتداء من التغير الذي جاء به غزو أجنبي, الي طبيعة المجتمع العراقي الفسيفسائي, لكنها في عصر الربيع العربي تظل تجربة تستحق التمعن, وبالذات في النتائج المتحققة من سقوط نظام قديم واحلال جديد, أو كما تصفه حنا أرنديت في تحليلها للثوارت باعتبارها تجسيدا لاكثر آمال الناس اشراقا. ولأن أرنديت كانت تكتب عن الثورة الفرنسية, وعن تلك الآمال التي اطلقتها ثم مالبثت أن خبت ليلفها اليأس فقد يكون أكثر افادة هنا العودة الي شئ من تاريخ العالم الثوري, بداية من أم الثورات, وكيف أنها, مثلما كانت الشعلة التي أنارت دروب المضطهدين في العالم, ظلت مثالا ساطعا علي تجاوزات وفضائع ارتكبت كلها باسم شعاراتها في الحرية والمساواة والاخاء, وسرعان ما انحدرت الي حضيض عصر من الفوضي والرعب وسفك الدماء.نتيجة ذلك. الكثير من الفظاعات تنسب الي اليعاقبة وبالذات الي روبسبير, خطيب الثورة وجلادها في آن, الذي حين اخفق في التوفيق بين مثل الثورة ومبادئها, كما كان يؤمن بها, وبين مجريات تطورها, كما كان يتفاعل معها آخرون, اختار اللجوء الي حل المشكلة عبر فرض بدعة المواطنة الفاضلة علي المجتمع الفرنسي بالقوة.ما انتهت اليه الثورة الجبارة بعد ذلك ليس ما هيأ لها منظراها كروسو ومنتسكيو, بل هو تسلم نابليون بونابرت للسلطة وتنصيب نفسه لا ملكا كالذي اطاحت به الثورة, بل امبراطورا ودكتاتورا ومغامرا عسكريا لم تنته ولايته قبل ان يلحق بفرنسا هزيمة منكرة في واترلو. هل يذكرنا هذا بمصير ثورة أخري؟ بالتأكيد إنها ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا التي استشرف مآلها احد الآباء الروحيين للأفكار الاشتراكية في روسيا بليخانوف في وصيته التي ظهرت بعد ثمانين عاما من موته حين حط من شأنها بعد اشهر قليلة من قيامها بوصفها انقلاب لينين وتنبأ ان طريق العنف والخداع والترويع والاكراه الذي اختطته سوف لن يبني مجتمعا عادلا و سيتمخض عنه اشتراكية مسخ, لا بل انها ستحول روسيا الي معسكر حربي حيث سيروعون المواطنين ويطعمونهم الوعود. واليوم نحن ندرك أن ثمانين عاما مما سمي بالثورة الاشتراكية العظمي انتهت الي سقوط الاتحاد السوفيتي, مثل بيت من الكارتون, تماما مثلما تنبأ بليخانوف الذي وصف لينين بانه روبسبير القرن العشرين والذي فضل الديماغوغيا والايديولوجيا علي الحلول الواقعية القائمة علي النظر المتروي للمستقبل وعلي مبادئ الديمقراطية والعدالة. هناك تجارب اخري حية في الاذهان انقلبت فيها الثورة علي نفسها مثلما حصل مع الثورة الايرانية التي اسقطت احد اعتي عروش الطغيان في العالم ولكنها احلت نظاما اتوقراطيا مكانه.ان افضل ما يجسد تلك الفجيعة برأي المفكر الايراني حميد دباشي هو أن الثورة التي عقد عليها الايرانيون آمالا كبار لم يروا من انجازاتها الا القليل, بل شعروا بخيانتها لهم حين ظهرت امامهم كالمرآة التي انعكس عليها الكابوس في اكثر لحظات الحداثة الايرانية ظلاما. اليوم تقف ايران بتناقضاتها وازماتها وصراعاتها مع ذاتها ومع العالم شهادة حية علي اغتصاب السلطة من الشعب, صاحبها الحقيقي, باسم الثورة الاسلامية التي لم يتبق منها إلا سردياتها العقائدية, والتي وضعت هي الاخري موضع اختبار تاريخي. حتي جنوب افريقيا التي تظل أسطورة ملهمة في تجارب انتصارات الشعوب علي مضطهديها لم تتحول بعد الي قصة نجاح في عمليات التغير التاريخي, إذ لاتزال بعد عقدين من الزمن تواجهها تحديات جمة خاصة علي صعيد تمكين الأغلبية السوداء من القوة الاقتصادية, اي امتلاك مفتاح حريتها الاقتصادية وتطورها, حتي أن مجلة الايكونومست وصفتها عام2010 بأنها واحدة من أكثر بلدان العالم التي تفتقر للعدالة.ولا يقتصر الامر علي هيمنة نخبة سوداء الان علي السياسة والاقتصاد, بدلا من الاقلية البيضاء, بل ان البلاد لاتزال تمتليء بالكثير من العلل وتواجه الكثير من المخاطر الناتجة من ضياع الفرص ومن الافراط في التعسف وفي استغلال السلطة وفي التجاوزات التي تولد يأسا, وآخرها مذبحة عمال التعدين في ما ريكانا التي لا تخلو دوافعها عن صراعات علي السلطة وعلي النقابات العمالية, والأهم علي المناجم التي تحتوي علي كنوز البلاد الدفينة. هناك عبر للوثبات التي يعيشها العالم العربي من تجارب الثورات وحركات التغير تلك التي فرقتها الفترات التاريخية ومستويات التطور الاجتماعي والخلفيات الفكرية والعقائدية لكن وحدها الاخفاق في تحقيق الغايات السامية التي فجرتها, وعلي رأسها العدالة والحرية, بسبب الانسدادات التي كانت محصلة تحديات وتناقضات وازمات اخفقت القوي السائدة في حلها. ما يميز الثورات الفرنسية والروسية والايرانية هي أنها وضعت فوق محك التجربة ثلاث فلسفات أوعقائد كبري وهي اللبرالية والشيوعية والاسلامية بطبعتها الشيعية, بينما نجحت الليبرالية الغربية في توكيد ذاتها بعد مخاض عسير من التجارب والاختبارات أخفقت الشيوعية تماما أو غيرت جلدها (كما في الصين), وها هي التجربة الايرانية تخوض ربما معاركها الاخيرة. يتطلب الأمر أيضا ملكة نقدية وخيالا وشجاعة الإقرار بأن الطريق نحو التحول الذي جاءت به الوثبات العربية, خاصة في مصر الرائدة, قد بدأ للتو وأن تلك عملية انتقالية طويلة ستواجه خلالها محطات متتالية من التحديات, وربما محن.بمعني الخيار بين اما ان يكون الناس والمجتمع ككل اسري للماضي, او ان يكونوا صناعا للمستقبل. هناك حاجة ماسة لقيادات للتحول تقر بالتحديات, لا ان تستصغر شأنها وان تلهم الناس بكيفية العمل بهمة علي تجاوزها. كما يتطلب الأمر بعد ذلك فكرا وقادا لا ينشغل كثيرا بالحقائق المطلقة, بل في معالجة قضايا اليوم, مهما كانت تعقيداتها, بروح المبادرة والعقل والتسامح, وأن يضع كل ذلك في مدونات الثورة ووثائقها من دستور وقوانين وبرامج تعكس غاياتها وروحها في اقامة نظام سياسي يقوم فعلا علي العدل والحرية والديمقراطية. كاتب عراقي مقيم بالقاهرة المزيد من مقالات صلاح النصراوى