احتفلت مصر أمس الأول 19 مارس بالذكرى الثلاثين لرفع علم مصر على (طابا).. تلك البقعة المقدسة من تراب الوطن الغالى مصرنا الحبيبة.. التى عادت إلى أحضانها بعد معركة قانونية ودبلوماسية استمرت لمدة سبع سنوات.. فى قضية نزاع حدودى بين مصر وإسرائيل تشكلت لها لجان قومية ضمت نخبة من أكفأ المصريين الشرفاء رحل منهم أخيراً العلامة القانونى الدكتور أحمد صادق القشيرى أستاذ القانون الدولى والمحكم الأشهر فى ساحات المحاكم الدولية. بدأ القشيرى حياته العملية فى مجلس الدولة عام 1952 إبان ثورة يوليو المجيدة.. وكان الدكتور السنهورى أحد أهم من تنبهوا مبكراً لنبوغ القشيرى فأسند إليه الملفات الوطنية التى تناسب مهاراته البحثية واستمرت رحلته الوطنية والنبوغ تلك حين انتقل القشيرى للعمل بالجامعة أستاذا للقانون الدولى الخاص، ومستشاراً ثقافياً لمصر فى باريس وواشنطن، واختيار ليبيا له قاضيا بمحكمة العدل الدولية فى قضية لوكربى، ورئاسته جامعة سنجور الدولية، والمجلس الاستشارى لمركز القاهرة الدولى للتحكيم وغيرها. وحين ثار النزاع بين مصر وإسرائيل عقب وفاة الرئيس السادات عام 1981، ورفض إسرائيل الانسحاب النهائى من سيناء فى أبريل 1982، بما عرفت حينها بقضية (طابا).. فكان القشيرى الاختيار الأمثل ضمن فريق الدفاع عن مصر، سيما فى علامات رأس النقب ذات الأهمية الإستراتيجية القصوى وبرزت معه أسماء مصرية من المتخصصين والمعنيين شكلوا بخبراتهم ورصيدهم فرساناً يشار إليهم بالبنان. عكف القشيرى وزملاؤه على تجلية حق مصر الثابت فى نقاط الحدود، وكان من أهم تحديات تلك القضية هو تحديد مهمة الهيئة التحكيمية فى إقرار مواضع الحدود التى حددتها كل من مصر وإسرائيل وليس لها حلول توفيقية يمكن أن تنتقص من حق مصر فى ترابها الوطنى.. وسارت المرافعات الشفوية وتقديم المستندات حتى صدر الحكم لصالح مصر فى أغلب تلك النقاط الحدودية على طول الخط الفاصل من رفح شمالاً وحتى طابا جنوباً. لقد أوضح ذلك الحكم أهمية تكامل فريق العمل المصرى وإنكار الذات فى سبيل إدراك النتائج الايجابية وإثبات الحقوق التاريخية عن طريق الأدلة القانونية الدامغة. ومن أروع ما أثير خلال تلك القضية، ما أثبته القشيرى فى كتابه حول «تحكيم طابا» أن مصر استعانت بقاض دولى كان أستاذاً للقاضي الذى استعانت به إسرائيل، حتى قيل فى الأوساط التحكيمية إن هذا القاضي (من طرف إسرائيل) لا يعانى إلا من عقدة نفسية واحدة هى القاضي الذى اختارته مصر. وفى 19 مارس 1989. رفرف العلم المصرى على طابا مؤذناً بعصر جديد لمصر فى بسط سيادتها الوطنية على آخر نقطة احتلتها إسرائيل فى عدوانها البغيض فى 1967، وليبشر بمرحلة جديدة من التعمير والبناء والكرامة والعزة للمصريين جميعاً. نعم.. رحل القشيرى إلى جنات النعيم بإذن الله ولكن تبقى سيرته المشرفة ناقوساً يدق بمعانى الجدية والمثابرة والإرادة والعزيمة التى لا تلين، وأذكر هنا ما أسرّت به إلىّ شخصيا رفيقة كفاحه المرحومة الأستاذة الدكتورة سامية راشد، أستاذ القانون الدولى الخاص أن زوجها الدكتور القشيرى كان فى إجازة زوجية وأسرية وعملية تامة منذ أن لبى نداء الوطن 1982 إلى صدور الحكم 1988 رافضا أى التزامات أخرى حتى يتفرغ تماماً لهذا العمل الوطنى العظيم. ومن شرفٍ أن أصدرت عام 1999 كتاباً حول «طابا مصرية» فاز بجائزة الدولة عام 2000 بمعرض القاهرة الدولى للكتاب، ومن شرفٍ كذلك أن شارك القشيرى فى لجنة مناقشة رسالتى للدكتوراة عام 2002 فى التحكيم الدولى. رحم الله الدكتور القشيرى، وسلام على طابا يوم عادت تتألق فى جيد سيناء، وما بقيت فى الوجدان المصرى والعربى رمزاً للوطنية والإباء والشموخ. وتحيا مصر دوماً بفرسانها الأبرار. لمزيد من مقالات د. خالد القاضى