لاخلاف على أن الإرث المصرى الأدبى الوسيط وتحديدًا منذ دخول الفاطميين إلى مصر فى منتصف القرن الرابع الهجرى سنة 358 ه الموافق 969 م، بل وقبله منذ عهدى الدولتين الطولونية والإخشيدية فى القرن الثالث الهجرى، وامتدادًا إلى نهاية دولة المماليك، والتى سقطت فى منتصف القرن العاشر الهجرى سنة 922 ه فى أيدى العثمانيين، فى حاجة ماسة فى وقتنا الراهن لإعادة النظر فيه والالتفات إليه، والتنقيب عنه، وقراءته من زاوية تفسيرية ونقدية وتحليلية معاصرة، خاصة أنه إرث يمثل فى واقع الأمر سجلا ذهبيًا نادرًا تجلى فى عشرات الدواوين الشعرية والرسائل النثرية والخطابات المتبادلة بين سلاطين الدولة المصرية فى الداخل والخارج، كتبها أبرز أدباء مصر فى تلك الفترة ، كثير منها للأسف لم يحقق، ولم يكن موضع بحث من الأصل، وموجودا بعضها فى دار الكتب والمخطوطات المصرية من غير تحقيق، وهو تراث يعكس بحق طابع الشخصية المصرية فى تكوينها وخصوصيتها وفطرتها الإبداعية فى فترة هى الأخطر فى تاريخ البشرية، باعتبار أن هذا الأدب المصرى الوسيط امتد قرابة خمسة قرون كاملة، شهدت فيها المنطقة، وليس مصر وحدها، أحلك فترات التاريخ وأعقدها، بداية من حروب الصليبيين فى القرن السادس الهجرى فى عهد دولة بنى أيوب، مرورًا بحروب التتار والمغول فى القرن السابع الهجرى فى العصر المملوكى الأول، ومحاولة الصليبيين العودة إلى المشهد من جديد فى القرن نفسه، ووصولا إلى الفتن الداخلية والتى دفعت رواق الحكم المملوكى لأن يسقط فى أيدى من أطفأوا سحابات النور فى بلادنا، ونقصد بهم العثمانيين الغازين، الذين أوقفوا عجلة التاريخ من الدوران فى مصر وفى المنطقة قاطبة، وطووا صفحة الأدب تمامًا كما تطوى السجلات والكتب. إن هذه الفترة الخطيرة من تاريخ مصر القديم، وإن حظيت بمئات الدراسات التاريخية والسياسية والحربية، إلا أنها من وجهتى الأدب والنقد مازالت لا تلقى العناية الكافية، ولا الدراسات الواعية التى تؤصل لها، ولطبيعة حركتها وفنونها ومدارسها، خاصة أنها الفترة التى شهدت ظهور ما يمكننا أن نسميه المدرسة المصرية فى الأدب واللغة والفكر الموسوعى والمعجمي، وهى المدرسة التى ارتبطت بما أنجبته مصر وحدها من عشرات الأسماء من كبار رموز الأدب العربى، ومن عاشوا فيها آنذاك من طراز القاضى الفاضل وبهاء الدين زهير وظافر الحداد وابن النبيه وتميم بن المعز وابن نباتة المصرى، وابن قلاقس والشاب الظريف وابن مطروح والبوصيرى وغيرهم العشرات والعشرات، هذا إلى جوار شعراء الفكاهة والتندر أمثال ابن مكنسة وابن دانيال وعامر الأنبوطي، وشعراء الصوفية الكبار: عفيف الدين التلمسانى وابن الفارض والبكرى والكيزانى والقونوى، والشعراء الشعبيون أمثال إبراهيم المعمار والغبارى وابن سودون، وكتاب النثر الكبار القاضى الفاضل وابن مماتى وابن فضل الله العمرى وابن عبد الظاهر وابن مكانس والصفدي، وكُتاب فن المقامات والسير: القلقشندى والسيوطى والشهاب الخفاجي، وغيرهم العشرات والعشرات الذين نقلوا لنا - من قبل أى مبدع معاصر- السيرة الهلالية وسيرعنترة والزير سالم والظاهر بيبرس وسيرة سيف بن ذى يزن وألف ليلة وليلة، وكتبوا جزءًا منها بالفصحي، وأجزاءً باللهجة العامية المصرية، وكان يُتغنى بها حتى مطلع القرن العشرين فى المقاهى المصرية على ألسنة عازفى الربابة والمنشدين المصريين. وحينما نقول إن مصر بما أنجبته من مبدعى زمانها وفنانيها فى فترتها الوسيطة «الفاطمية، الأيوبية، المملوكية» أسست لمدرستها الأدبية، والمعروفة سلفا باسم «مدرسة مصر الإسلامية»، فإننا نقصد المدرسة التى خطت لنفسها خطا واضحًا وفارقا بدا بجلاء فى موضوعات شعر تلك الفترة وفى نثرها، وفى المنهج الفنى الذى اتبعه شعراؤها، وفى أدواتهم الفنية التى وظفوها لخدمة ذلك المنهج، وهو منهج تمثل لديهم كبوتقة انصهرت فيها خلاصة المدارس الشعرية والأدبية السابقة فى العصورالأولي، وامتزجت بالروح المصرية الفريدة والمتميزة بطابعها الخاص، المتولد من طبيعة الكيان المصرى نفسه المرتبط بأرضه والمعتز بها وبكينونته، وبواقع انتمائه إلى تراب هذا الوطن المقدس. وهى نفسها المدرسة التى شهدت فى سياق الأدب - بفضل نباهة أبنائها - انتقال أبرز الفنون إلينا، كفنون الموشحات والأزجال والدوبيت وغيرها من الأندلس إلى مصر، على يد المبدع المصرى الكبير الشاعر ابن سناء الملك «550 ه - 608 ه» الذى صبغ فنون الأندلس بالصبغة المصرية الخالصة، فنسج الموشحات على الذوق المصرى الفارق، وأبدع فى موسيقاها وفى تنغيمها، وأضاف للأوزان الأندلسية، وترك كتابًا من أندر الكتب يؤصل لهذه الفنون وطبيعتها وأوزانها ، أسماه «دار الطراز فى فن التواشيح» فى مطلع القرن السابع الهجرى. إن الأدب فى مصر الوسيطة فى حاجة ماسة ، وفى هذا التوقيت بالذات، لمن ينقب عنه وينصفه، ويحقق شعره ونثره ومقاماته، ويبحث عن ملامح الشخصية المصرية فى زمن المحن، التى صمدت فى وجه الحروب وأزمات الغزو التقنى، وأثبتت وجودها على خريطة الفن والأدب والشعر، ولكن يبقى إرثها الأدبى فى حاجة لمن يبحث ويعيد قراءته وتحليله من زوايا معاصرة.