قطع من خشب مهمل, وبعض من أحجار غشيمة ملقاة علي شاطئ مهجور, قلما تلتفت إليه الأنظار, تمر من أمامه الناس ذهابا وإيابا, ولكن أحدا لا يلتفت إليه; فليس في هذا المكان من دون سائر أجزاء (المدينة الكبيرة) بصيص إغراء لأحد. يتعاقب البرد و الحرور, الظلام والنور,و لا تزال هذه البقعة علي حالها,ولا تزال العيون عازفة عن النظر إليها, عاجزة عن تخيل شكل آخر لهذا الشاطئ سوي أن يظل مهجورا!! ربما يكون موقعه علي هامش (مدخل المدينة) هو السبب وراء ذلك; حيث الناس منجذبة لأضواء المدينة المتلألئة عن بعد, وحركتها المتأججة الموحية بالحياة, لا إلي هذا الموات المتجسد في هذه البقعة من الأرض المهجورة بأطلالها الشاخصة الصامتة! وفي ذات صباح, يمر حاكم المدينة, وأطول الحكام عمرا في حكمها, ليتفقد حلمه الكبير بتطوير المدينة بأسرها,فتلفت هذه البقعة الموحشة نظره, فيتساءل عن السبب,فيرد معاونوه بأنهم لم يغفلوها في خطة التطوير,( وهم الذين لم ينتبهوا لوجودها أساسا)!! ولكن ردهم هذا قد وضع علي رقابهم سيف الالتزام; فمنذ هذه اللحظة أصبح إحياء هذه البقعة الميتة حتما مقضيا!! وبينما أحد المعاونين قابعا في حيرة من الأمر,دلف إلي غرفته (أحد المقربين) فتساءل عما يشغل البال,فيقص عليه القائد ما حدث,وهنا,يقترح عليه مخرجا:ا سمعت أن فلانا من أهل المدينة يجيد العزف علي القيثارة,فماذا لو جعلناه يصدح بالنغمات في هذه البقعة,فمنها أحييناها, ومنها استغلينا موهبته, وما يدريك لعل هذه البقعة تكون مزارا يرتاده الناس فيما بعد ب ؟ افكرة رائعةب هكذا صرخ القائد في وجه محدثهب افلتستدعوا فلانا هذا, ولتبلغوه بأن الثماني والأربعين ساعة القادمة هي كل ما يملكه من رصيد الزمن كي يهيئ نفسه لاستقبال الزائرينب! الجنود ينطلقون في ردهات المدينة بحثا عن هذا العازف المجهول, حتي إذا ما وجدوا باب منزله قرعوه بقوة في وقت لم يكن هو يتوقعه, فأبلغوه بالرسالة ورحلوا تاركينه دون دليل يهتدي به, ودون أن يفسحوا له مجالا للحديث.. وهكذا دوما رسائل الجنود! وعلي بصيص ضوء القمر, وقليل من وميض نجمات تكاد تنطفئ,حمل الرجل قيثارته مسرع الخطي إلي حيث البقعة المهجورة المنشودة,تؤنس وحدته أزواج من شهيق وزفير متسارعان في جوف ليل تنذره النسمات بصباح قارص البرودة;وكثير من علامات استفهام يبدرها خياله علي مرمي البصر.. وكثير من أحلام وأمنيات! فلما بلغ الرجل مراده تحت جنح الظلام,رأي الأرض كما لم يراها أحد, و(تخيل) أنه راح يلملم الأحجار الثقيلة وحده, وتلك الأخشاب المتناثرة غير المتسقة في الأنحاء,فجعل هذي فوق تلك متراصة, ليشيد لفكرته بناية تليق بمدخل المدينة, و(تخيل) أن الناس وقوف من حوله يستمعون إلي قيثارته, يدوي تصفيقهم دويا في أذنيه وليس الريح, فكاد صاحبنا أن ينحني خجلا لتحيتهم.. في الخيال!! اكتملت البناية في سباق مع عقارب الزمن,والتفتت الناس إليها وإليه, وراح المكان يمتلئ بالزائرين رويدا رويدا مع مرور السنين ذ إثنتي عشر سنة متصلة,رحل خلالها الحاكم وجاء حاكم آخر ثم رحل وجاء حاكم آخر ثم رحل وجاء حاكم آخر- ولم يتخل عازف القيثارة عن قيثارته أو المكان أبدا, فلما اعتاده الناس( تكلم), يحكي لهم عن أشياء تعلمها وأخري قرأها ثم عاد فعزف.. وهكذا طبائع البشر!! ولكن,( ماذا عسي هذا الرجل فاعل)؟ اأيأخذ الأرض بأكملها لصالحه, يشدو و(يتكلم) ايضا؟أوليس أصل غرض البناية قيثارتهب؟ (..ثم لما لا يبني آخرون بنايات مماثلة لبنايته)؟! فبني البعض بناياتهم وهذا حقهم, فلم يكن الرجل يعنيه ذلك في شيء.. وإنماكل ماكان يعنيه هو بنايته! ويمر بعض الوقت, ثم يولد استغراب جديد من رحم الأيام:(..و لماذا بناية هذا الشخص هي الأكبر؟ وبأي حق؟ ألكونها الأقدم في هذا المكان؟). العاديات صبحا تسابق الريح, يعتليها الجند حاملين معاول الهدم والغبار بركان,فإما أن تزال البناية أو تتساوي ببقية البنيان, فيلملم الرجل أشلاء قوته كي يحمي البناية: لن تنالوا منها( أيضا) هذه المرة, كمثل ما لم تنلوا منها علي مر الزمان ؟ وتبقي البناية شامخة لا تهتز يحميها الرجل ولا ينام له جفن,فلا فلح( المتربصون) يوما في إزالتها,بمن فيهم(أقوي الحكام),ولا توقف الرجل طوال الوقت عن تجويد محتواها,عاقدا العزم علي ألا يتركها أبدا أو يتخلي عن زائريها!! واليوم يأتي إلي المدينة حاكم جديد,الفرق بينه وبين جميع الحكام الذين عاصرهم الرجل من ذي قبل هو أنه( صديق);ولأنه صديق,فلقد تحتم علي الرجل أن يعيش معه حلمه بشأن المدينة كلها;وهو يعيد ترتيب أوراقها المتبعثرة هنا وهناك,ويلملم أشلاء الأشياء بداخلها,ليجعل منها تاجا فوق رءوس كل المدن,وهذا حقه,وهذا واجب علي كل من يزعم صداقته ذ أن يعينه علي تحقيق حلمه!! وتمتد لفائف الخرائط المدينة للجديدة,خريطة تلو الأخري,وتتلاقي أعين الصديقين من فوقها,فيفهم الرجل الرسالة: فاليوم ما عاد هناك مكان لهذه البناية;ذلك لأن سياق البنايات المحيطة(بالفعل)سوف يختلف في إطار خطة( جادة)هذه المرة للتطوير ستشمل جميع البنايات. إذن فليس أمام الرجل اليوم سوي أن ينسحب,ولقد قررت الانسحاب!! أما البناية فكانت هذا المقال الذي كنت أطل منه عليك أسبوعيا,وأما الصديق فهو الأستاذ عبد الناصر سلامة رئيس تحرير زالأهرامسوأما الرجل فهو أنا!! لذا,فلقد شاءت الأقدار أن تكون هذه السطور هي آخر سطور أسطرها إليك من هذا المكان, تحديدا من كل جمعة, لأنتقل ببنايتي طوعا إلي بقعة أخري داخل( المدينة) في الثلاثاء من كل أسبوع بالصفحة الحادية عشر, وأعدك بأن تكون نصب عيناي دوما كمثل ماكنت, وأن تكون أنت البوصلة الوحيدة التي بها أهتدي. أما وإن حان الرحيل سيدي.. فموعدنا الثلاثاء!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم