تربعت الولاياتالمتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتى كقطب أوحد على رأس قيادة العالم سياسيا وعسكريا واقتصاديا وفي مجالات العلوم والتكنولوجيا والفضاء والتصنيع العسكرى والمدنى، ومع بدايات حكم جورج بوش الابن وتبنيه لأيديولوجية المحافظين الجدد والصراع الإسلامى – المسيحى، نجح منفذو اعتداءات سبتمبر وتدمير برجى التجارة العالمى فى نيويورك ومهاجمة مقر وزارة الدفاع فى جر أمريكا إلى ما يمكن تسميته بفخ تمزيق أوصال الإمبراطورية الأمريكية. فقد أعلنوها صراحة أننا لن نستطيع مهاجمة أمريكا فى الداخل مرة أخرى ولكن يمكننا توريطها فى صراعات عدة فى الخارج تستنزفها اقتصاديا وعسكريا وتوجه ضربات قاتلة لهيبتها فى العالم، وشبهوا تلك الإستراتيجية فى المواجهة بفيل يقاتل فى جبهات عدة حتى تخور قواه. ولعل تصريح أحد المسئولين الصينيين كان معبرا عندما قال: "نحن سعداء بانشغال أمريكا بالجماعات الجهادية واستنزافها فى جبهات عدة"، ولعل تسلسل الأحداث ينبىء عن الكثير، فقد احتاجت أمريكا لتشكيل صحوات عسكرية من أهل السنة فى العراق لحماية ظهر جنودها وهم ينسحبون، بعد أن اضطر العبء الاقتصادى لتكلفة الحرب الرئيس السابق أوباما للانسحاب من العراق والاكتفاء ببعض القواعد العسكرية. وجاءت فترة حكم أوباما كلها (8 سنوات) لتحجيم الانغماس الأمريكى العسكرى والاقتصادى فى الأزمات العالمية والحروب الأيديولوجية حفاظا على الاقتصاد الأمريكى ذاته، ولما جاء الرئيس الحالى ترامب قبل عامين أصبح ما كان حراما حلالا، وما كان خطأ صوابا فى نظر البيت الأبيض، وانقلبت موازين مفاهيم العلاقات الدولية. فجماعة شباب المجاهدين فى الصومال وبوكوحرام فى نيجيريا لم تعد تمثل تهديدا للأمن القومى الأمريكى، وحركة طالبان الأفغانية لم يعد البيت الأبيض يراها إرهابية، بل وتستجدى واشنطن المفاوضات معها لأنها تريد سحب جنودها من أفغانستان، ويضغط البيت الأبيض على حلفائه فى باكستان لكى يضغطوا على قادة طالبان فى إسلام آباد لينخرطوا فى المفاوضات، بل يتم اعتقال بعض القادة وإطلاق سراح من كان معتقلا منذ 8 سنوات لكى يترأس وفد الحركة فى المحادثات الجارية بالدوحة، وفى تطور مذهل يتم الإعلان عن تحقيق نجاحات بشأن وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الأمريكية. وليس الانسحاب من سوريا ببعيد عن حالة التراجع الحاد فى الهيمنة الأمريكية على سياسات العالم والقيام بدور الشرطى الدولى، ويشجع تلك الحالة ما تعانيه أمريكا اقتصاديا وما بدأت تستشعره من أن تورطها فى أفغانستانوسوريا وغيرها من المناطق يستنزفها فى الوقت الذى يقوى الجناح الروسى الصينى، وهما العضوان فى منظمة شنغهاى، التى يبدو أنها البديل لحلف وارسو القديم. والدور الروسى فى سوريا لم تعد تخطئه العين وإهانتها لأمريكا وأوروبا فى الملف الأوكرانى بعد استيلائها على جزيرة القرم واضح، فضلا عن الإستعراضات العسكرية الروسية فى القارة الأوروبية والتى أثارت انتقادات من بريطانيا وفرنسا وألمانيا. كل ذلك فى وقت يطالب فيه ترامب حلفاؤه فى أوروبا وحلف الناتو بعدم الاعتماد كلية على الحماية الأمريكية والمشاركة فى تحمل الأعباء الاقتصادية لتلك الحماية. كما يطالب حلفاؤه فى الخليج أيضا بالإنفاق بسخاء حتى تستمر الحماية. ولعل الوضع الاقتصادى الداخلى –كما يصفه الأمريكيون أنفسهم– يكشف بجلاء أسباب الاضطرار للانكفاء على الذات الذى وصل لمرحلة بناء جدار عازل مع المكسيك يتكلف 7 مليارات دولار، فخبراء الاقتصاد عندهم يؤكدون أن الانهيار المالى قادم وأن كل المحاولات الجارية الآن لا يعدو كونها تأخير لميعاده ليس أكثر. ويتوازى هذا الاهتزاز فى المكانة العالمية مع اهتزازات فى صورة وشكل القيادة الأمريكية نفسها فى الداخل، فعلاقات ترامب مع مسئولى إدارته وأعضاء الكونجرس والخلافات بل والانتقادات العلنية توحى بخلخلة واهتزاز فى هرم القيادة لم يعتد العالم عليها من قبل، وإذا كانت الخلافات الحزبية أمرا طبيعيا بين الجمهوريين والديمقراطيين، إلا أن شكل الخلاف فى عهد ترامب غير مسبوق بانتقاله لمرحلة تكسير العظم وتعريض الأمن القومى للخطر. ومسألة الإغلاق لبعض المؤسسات الحكومية وهى الأطول فى تاريخ البلاد تنقل الولاياتالمتحدة من مرحلة كانت تُستنزف فيها اقتصاديا بسببب مغامرات عسكرية فى عهد بوش إلى استنزاف اقتصادى داخلى بسبب صراعات حزبية وعناد شخصى فى هرم القيادة يعيد للأذهان ما تردد قبل أكثر من عامين من أن مجىء ترامب للبيت الأبيض ربما يكون نذيرا بالانهيار الأمريكى. [email protected] لمزيد من مقالات عبد الفتاح أنور البطة