لا يمكن أن يكون حدوث تغيير عميق فى النظام الاقتصادى الإسرائيلى ، يؤدى إلى ارتفاع حاد فى معدلات الفقر واللامساواة بصورة غير مسبوقة حتى أصبحت دولة إسرائيل من بين الدول الأعلى فقرا على الإطلاق فى دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، اختيارا عبثياً بقدر ما هو خيار سياسى تبناه اليمين الحاكم لعدم رغبة الحكومات الإسرائيلية فى الدفع نحو حل سياسى للصراع الإسرائيلى الفلسطينى بما يحتم عليها تبنى موقف متصلب فى الحلبة السياسية الدولية. ومن هنا فإن تقليص اعتماد الاقتصاد الإسرائيلى على المعونات والمساعدات الخارجية من شأنه أن يقلص أيضا، ولو بصورة جزئية وضئيلة، قدرة الحكومات الأجنبية على التأثير على القرارات والإجراءات السياسية الإسرائيلية فى كل ما يتصل بأمور المفاوضات السياسية والبناء الاستيطانى فى المناطق الفلسطينية. وقد وصف هذا التوجه الحاد بالتحول نحو الليبرالية الجديدة وتميز بالأساس فى التخلى عن سياسة التدخل الحكومى المباشر فى الأنشطة الاقتصادية لمصلحة الخصخصة وتحرير الأسواق. بما حقق فوائد وأرباحا هائلة لمصلحة مجموعة صغيرة من أصحاب رؤوس الأموال مقابل إلحاق أضرار بالغة بجمهور العاملين عامة وبمستوى حياة السواد الأعظم من السكان. دعم المسار اليميني «العلاقة المسكوت عنها بين الليبرالية الجديدة الإسرائيلية والصراع مع الفلسطينيين» كان عنوان المقالة العلمية التى نشرها الباحث الإسرائيلى د. أرييه كرامبف المتخصص فى مجال الاقتصاد السياسي، فى الحوكمة المالية العالمية وفى تاريخ الاقتصاد الإسرائيلى والذى يعمل فى الكلية الأكاديمية بتل أبيب يافا، ونشر المقال فى مجلة «هزمان هزيه» العبرية (وتعنى هذا الزمن) وهى مجلة رقمية تعنى بالقضايا الفكرية والجدل الجماهيرى العام تصدر عن «معهد فان لير» فى القدس. وقال صراحة ان دولة إسرائيل، بقيادة الحكومات اليمينية تسعى خلال السنوات الأخيرة، إلى تقليص مدى اعتمادها الاقتصادى على الدول الغربية عامة، والولاياتالمتحدة خاصة، وإلى تعزيز قدراتها الذاتية على مواجهة الضغوط السياسية الدولية المترتبة على معارضة الاحتلال الإسرائيلى للمناطق الفلسطينية، رغم ان الليبرالية الجديدة المتشددة التى ينتهجها اليمين الحاكم ضد مصلحة المواطن الإسرائيلى على الأرض ترفع معدلات الفقر وتجعلها أشد وطأة وكثافة وتصب فى مصلحة قلة من رجال المال المتحكمين فى الإقتصاد الإسرائيلي. وقد ظهرت البوادر الأولى لهذا المسار الاقتصادى خلال حكومة بنيامين نيتانياهو الأولى فى عام 1996، واتخذ شكلا حادا بعيد الأثر حيث جندت مجموعة كبيرة من علماء الاقتصاد، خلف واضعى السياسات ووفرت لهم دعما تاما وغير مشروط وأصبح النظام الاقتصادى السائد فى إسرائيل هو حصيلة تبنى أفكار الليبرالية الجديدة وأفكار المحافظين الجدد، التى استوردتها من الولاياتالمتحدة جهات إسرائيلية ضالعة. ويشير الكاتب إلى أن ثمة أساسا تاريخيا للادعاء بأن التأثيرات الأميريكية هى التى فرضت اعتماد سياسة الطوارئ فى إسرائيل و شكلت أبرز المؤشرات على التحول النيو ليبرالى يليها المصالح الفردية التى أسست إلى العلاقة بين رأس المال والسلطة. فكان القطاع الخاص الرابح الأكبر من عمليات الخصخصة والعولمة التى أُخضع لها الاقتصاد الإسرائيلى. هضم الحق الفلسطينى يكشف الإقتصادى الإسرائيلى عن مسألة تحقيق تسوية سياسية للصراع الإسرائيلى الفلسطيني، أن إسرائيل توظف كل جهودها تقريبا، من أجل الحفاظ على «الوضع القائم» وإدامته، مما يعرضها لمستويات مختلفة ومتغيرة من الضغوط الدولية. غير أن مواجهة هذه الضغوط والصمود أمامها يستلزمان تحقيق استقلال اقتصادى واسع ومتين، وهو ما تتحمل القسط الأكبر من أعبائه وثمنه قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلى حيث تتكبد أضرارا جسيمة جدا فى مستوى المعيشة. و الحكومات التى تنتهج سياسات خارجية متشددة، أو تلك التى تتميز سياساتها الخارجية بعدم الاستقرار. بما يعنى تعرضها لضغوط دولية مختلفة أو تورطها فى صراعات دولة مختلفة، قد ينشأ لديها حافز قوى وواضح لتبنى نهج ليبرالى جديد متشدد يساعد على تحسين قدرة الشركات المحلية على التنافس فى الأسواق الدولية. ومن شأن مثل هذه الانعزالية أن تؤدى إلى تقليص قدرة الأطراف الخارجية على التأثير على عمليات صنع القرارات المحلية، من خلال تقليص الديون الخارجية وزيادة الأرصدة المحلية من العملات الأجنبية، التى تشكل صندوق طوارئ لأوقات الأزمات. ولما كانت العلاقة بين السياسة الخارجية التى تعتمدها الحكومات الإسرائيلية خلال العقدين الأخيرين وبين التطرف «النيو ليبرالي» خلال الفترة نفسها. فقد وفرت هذه السياسة حافزا إضافيا آخر لتبنى صيغة أكثر تطرفا من النظام النيو ليبرالي، ترتبت عليها معدلات مرتفعة جدا من الفقر واللامساواة. تقليص المعونات الأمريكية فور تسلمه منصب رئيس الحكومة، فى حكومته الأولي، صرح بنيامين نيتانياهو فى خطاب ألقاه فى الكونجرس الأمريكي، بأن إسرائيل تسعى إلى تحقيق استقلال اقتصادى يسمح لها بالتخلى عن المعونات الاقتصادية التى تقدمها لها الولاياتالمتحدة. وبالفعل، تراجع حجم الدعم المدنى الأمريكى المقدم لإسرائيل باستمرار من عام 1997، حيث بلغ آنذاك 1.2 مليار دولار، حتى إلغاءه تماما فى عام 2008. لكن إسرائيل لم تتخل عن المساعدات الأمنية التى ازدادت خلال كل تلك السنوات وبلغ حجمها الآن نحو 3 مليارات دولار سنويا ومن المتوقع أن يرتفع إلى 3٫8 مليار دولار عام 2019، بموجب الاتفاق الذى تم التوقيع عليه بين نتنياهو والرئيس الأمريكى السابق، باراك أوباما. وأصبح التقليص الحاد الذى تحقق فى درجة الاعتماد الإسرائيلى المباشر، على المعونات الخارجية الأمريكية يحرر القرار السياسى رغم أن اعتماد إسرائيل على الولاياتالمتحدة لا يقتصر على المعونات المالية فقط، وإنما يتعداه إلى الدعم السياسى فى المحافل الدولية المختلفة، مثل الأممالمتحدة ومنظماتها المختلفة وغيرها، فى مثل هذه الظروف، ليس مستغربا اتساع وتعالى الأصوات فى الحلبة السياسية الإسرائيلية وخارجها خاصة من بعض وسائل الإعلام، معاهد الأبحاث ونشطاء اليمين السياسى التى تدعو إلى التخلى تماما وفوراً عن المعونات الأمريكية لتجنب أى ضغوط سياسية قد تمارسها الولاياتالمتحدة على إسرائيل.