عاجل- الذهب يرتفع بطريقة جنونية ويسجل هذا الرقم بختام تعاملات السبت 19 أكتوبر 2024    "الستات مايعرفوش يكدبوا" يرصد مواصلة حياة كريمة تقديم خدماتها للعام الخامس    الجيش الصومال يقتل 30 إرهابيًا من حركة الشباب    وزراء دفاع مجموعة ال7: دور اليونيفيل والجيش اللبناني مهم لضمان استقرار لبنان    الشناوي يشيد باستضافة الإمارات للسوبر المصري ويؤكد جاهزية الأهلي لمواجهة سيراميكا    خدمة في الجول - قبل انطلاق الموسم الجديد.. طرح بطاقات Fan ID لموسم 2024-25    شرع في قتل سيدة.. المؤبد لسائق توكتوك تسبب بوفاة طفل بالشرقية    صورة.. أحمد عز يستأنف تصوير فيلم فرقة الموت الفترة المقبلة    "والله وبقيت تريند بس عن جدارة".. صلاح عبدالله يعلق على كلب الأهرامات    الأربعاء.. جامعة القاهرة تطلق قافلة تنموية شاملة لمنطقة كفر طهرمس ضمن مبادرة بداية    بعد البراءة.. ماذا قال إمام عاشور أمام النيابة بقضية مول الشيخ زايد؟    وزير الكهرباء: من طلبوا تركيب العداد الكودي قبل شهر أغسطس ليسوا مخالفين    في تصنيف QS Arab Region.."طنطا"تحتل المركز 78 من بين 246 جامعة مصنفة    رئيس مركز باريس بالوادي الجديد يوجه بانشاء رامب لخدمة المرضى    مدبولي: استثمارات العام المقبل موجهة ل«حياة كريمة»    توتنهام يتغلب على ضيفه وست هام يونايتد بحصة عريضة 4 – 1 في الدوري الإنجليزي الممتاز    وزير الأوقاف يشارك في حفل تنصيب الرئيس الإندونيسي الجديد نيابة عن الرئيس السيسي    حكم قضائي جديد ضد "سائق أوبر" في قضية "فتاة التجمع"    رسالة أسبوع القاهرة للمياه: الماء حق لكل إنسان.. و"سد النهضة" انتهاك للقانون الدولي    تأجيل محاكمة بائع خضار لاتهامه باستدراج سائق تروسيكل وقتله بشبين القناطر لجلسة الأربعاء المقبل    مصرع مزارع دهسًا أسفل عجلات جرار زراعي في قنا    رغم امتلاء بحيرة سد النهضة، إثيوبيا تواصل تعنتها وتخفض تدفق المياه من المفيض    وزيرة التنمية المحلية: النهوض بموظفي المحليات ورفع مهاراتهم لجذب الاستثمارات    وزير الكهرباء: بدء تشغيل محطة الضبعة عام 2029    فرص عمل جديدة بمحافظة القليوبية.. اعرف التفاصيل    عميد طب الأزهر بأسيوط: الإخلاص والعمل بروح الفريق سر نجاحنا وتألقنا في المنظومة الصحية    رئيس حي بولاق أبو العلا: تقديم كل التسهيلات للراغبين في التصالح على مخالفات البناء    فعاليات فنية عن تاريخ مصر الفرعوني والثقافي ببوليفيا    استعدادات مكثفة لاتحاد كرة السرعة قبل إقامة بطولة العالم في مصر    ب "السحر والدجل".. ضبط شخصين لاتهامهما بالنصب على مواطنين    بيولي: حققنا الأهم أمام الشباب.. ولا نملك الوقت للراحة    مدبولي: القطاع الصحي ركيزة رئيسية ضمن خطط تطوير الدولة المصرية    بقصد الاستثمار بالبورصة.. التحقيق مع موظف بالنصب على مواطن في الشيخ زايد    «آثار أبوسمبل» تستعد للاحتفال بتعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني    تعرف على قيمة الجوائز المالية لبطولة كأس السوبر المصري للأبطال    داعية بالأوقاف: الانشغال بالرزق قد يبعدنا عن ما طلبه الله منا    ارتدوا الملابس الخريفية.. الأرصاد تكشف حالة الطقس المتوقعة خلال الأيام المقبلة (تفاصيل)    14 عبادة مهجورة تجلب السعادة .. عالم أزهري يكشف عنها    11 شهيدا وعدد من المصابين جراء قصف الاحتلال منزلا بمخيم المغازى وسط غزة    تشكيل اتحاد جدة المتوقع أمام القادسية.. بنزيما يقود الهجوم    إعلام عبرى: انفجار الطائرة المسيرة بمنزل نتنياهو فى قيسارية أحدث دويا كبيرا    التصرف الشرعي لمسافر أدرك صلاة الجماعة خلف إمام يصلي 4 ركعات    حزب الله يُعلن استهداف جنود ومواقع إسرائيلية    الشيخ أحمد كريمة يوجه رسالة لمطرب المهرجانات عمر كمال    وزير الخارجية: أخبار سارة قريبا بشأن التواجد السعودي الاستثماري في مصر    رغم اعتراض ترامب.. قاضية تُفرج عن وثائق فى قضية انتخابات 2020    تطورات جديدة بشأن مستقبل جافي مع برشلونة    أول تعليق لصاحب جواز سفر عُثر عليه بجوار يحيى السنوار بعد اغتياله.. ماذا قال؟    ارتفاع عجز الميزانية الأمريكية إلى 1,8 تريليون دولار    لا داعي للأدوية.. وصفات طبيعية كالسحر تخلصك من الإمساك في 30 دقيقة    «معندهوش رحمة».. عمرو أديب: جزء من القطاع الخاص لا يطبق الحد الأدنى للأجور    وزير الخارجية اللبناني: استمرار إسرائيل في سياسة المجارز سيؤدي إلى مزيد من التطرف    أفضل 7 أدعية قبل النوم.. تغفر ذنوبك وتحميك من كل شر    تامر عاشور ومدحت صالح.. تفاصيل الليلة الثامنة من فعاليات مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية    الصور الأولى من حفل خطوبة منة عدلي القيعي    جميل عفيفي: تطابق وجهات النظر المصرية والسعودية في كل قضايا المنطقة    مونتيلا يدخل دائرة المرشحين لتدريب مانشستر يونايتد    ليلة لا تُنسى.. ياسين التهامي يقدم وصلة إنشادية مبهرة في مولد السيد البدوي -فيديو وصور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جابرييل جارسيا ماركيز‏..‏ في عزلة الزهايمر
نشر في الأهرام اليومي يوم 01 - 09 - 2012

ما أن يبدأ ابني في الابتسام والهروب بعينيه بعيدا عن عيني كي لا يقع في الملام‏,‏ حتي أدرك أن جرس التنبيه قد ضرب بتجاوزي اللاإرادي في إعادة نفس الكلام علي مسامعه‏,‏ وبالتالي وحفاظا علي ماء وجهي. وكي لا أحرج الغالي أو أثقل عليه بما لا يطاق, أو أجبره علي الإنصات لما صار لغوا في أذنيه, فإنني في الحال أسحب اسطوانتي المشروخة وادعي انشغالا فوريا بأمر يدوي أحققه بأصابعي لا يصاحبه الكلام المعاد الذي تمسحه بدايات الزهايمر تباعا من فوق شاشة الذاكرة.. و..كنا يا ابني بنقول إيه؟!.. وانت يا بت نسيتي نفسك ولا إيه!.. و..معذورة يا ابني هو أنا عقلي دفتر.. أنا مخي ساح من الحر والزهقان وحيفتكر قال إيه ولا إيه عن تعاقب المواقف والأحداث والأشخاص والزعامات والوزارات والانتخابات علي مدي أشهر معدودات, وهو الذي عاش سنوات طوال في ظل الاستكانة والموات ووزير يقعد20 سنة ورئيس يركب30 سنة ومجلس كان علي أيامهم سيد قراره.. وكيف لا يطل الزهايمر ليرحم خلايا مخ تآكلت ما بين الثورة والإخوان بفعل أحداث يناير ومساجين طرة وعصام شرف وحمزاوي وطنطاوي وغنيم وسلام الفنجري وقضية عبدالمعز والناشط والفلول والأم الأمريكاني والنائم علي ظهره وأذان في البرلمان ونائب رغم أنفه والعربة الطائشة في الوضع المخزي والكلام المرسل والكلام المعجون بزبدة والبلطجية والتأسيسية والدستورية ومشروع النهضة والتوك توك وإعلانات مسلسلات رمضان, وإفطار رفح الدموي, ونخنوخ, وشيعة أسوان, وطوارئ مكي, وقرض الصندوق ربا ولا ماريباشي؟! وعسكري الدرك, وديوان المظالم, ودستور يا اسيادي, وحمودة خللي بالك منه وذقن حضرة الضابط وقناة المنقبة والإخوان المسيحيين واللي قال شيلوه من فوقي لموته, واللي راح يطلب الود ولو في الصين, واللي ركب مركب يغرق بيه بعيدا عن أرض لم تعد أرضه, ومدينة زويل في جامعة النيل, وترابين الجاسوس في مقابل83 من أهل بلدي وناسي, واللي فتح صدره في الميدان.. واللي ولع في روحه في الميدان.. واللي أفتي بذبح اللي يخرج للميدان.. واللي زرع خيمته في الميدان ونقل مليونيته لميدان.. والاستربتيس في الميدان وعادل إمام في قفص الاتهام!!.. واللي أنكر النهضة ومشروعها.. واللي رايح جاي يعمل زمبليطة في الصالون وينشئ حزبا, ويسافر.. واللي مسجل خطر وخرج بعفو يلقط رزقه الحرام بالقانون.. والصرف الصحي اللي أفتي قبلها بشهر بصلاحية مياه صفصفط المسممة.. واللي قالت يا فن في بلد بدع الفنون خاضوا في عرضها.. واللي قال لهم وآخرة الزبالة إيه؟ نصحوه بغض البصر.. واللي قعد يعد الأيام قالوا له ماتعدش, وخيرها في غيرها.. واللي كان مخه يوزن بلد أصبح في وزن الريشة وطار في مهب الريح يوم ما انضم للفريق.. واللي قام بتكييف عربة قطار قنديل والباقي لأ.. والباقي لأ..
ألف مثلي ومثلك ممن قد يضربهم الزهايمر الذي اكتشفه العالم الألماني ألويس الزهايمر في عام1906 ووصفه بوجود رقع حول خلايا المخ كلهم بعقولهم المسافرة نضعهم في حضن الرعاية والعناية والرثاء, وربنا قادر يزيح ويشفي.. لكن.. هناك عقول إذا ما انطفأ نورها فالعالم كله يخسر كثيرا.. وكثيرا جدا.. ومثال لهؤلاء الندرة كاتب أمريكا اللاتينية المبدع جابرييل خوسيه جارسيا ماركيز صاحب رواية مائة عام من العزلة وغيرها من روائع الأدب العالمي في هذا العصر وفي كل العصور.. جارسيا الحائز علي نوبل في عام1982 غارق الآن بكامل عقله معذرة بناقص عقله في بحور النسيان كما صرح هذا الشهر شقيقه وولداه رودريجو وجونزالو وذلك بعد اشتداد مرض السرطان الليمفاوي عليه الذي كان قد داهمه في عام1999 وتلقيه العلاج الكيماوي لفترات طويلة في مستشفي لوس أنجلوس..
جارسيا المولود في أراكاتا بكولومبيا عام1927 من مواليد برج الحوت لكنه وهو المؤمن بالفلك قال إنه جاهد طويلا كي يتخلص من صفات الحوت ليكتسب مميزات الثور, وقد ظل يقاوم الاستسلام للمرض حتي عام2009 عندما أصدر آخر رواياته رواية الحب وقبلها في عام2004 كتب ذكريات عن عاهراتي الحزينات, وفي عام2003 قدم سيرته الذاتية بعنوان أعيش لأروي وقبلها الحب في زمن الكوليرا ورائعته خريف البطريق وساعة النحس وأوراق العاصفة والكولونيل لا يجد من يراسله وأهرب لأحلم.. وكما كتب ماركيز روايته أحداث موت معلن فقد أصبح بمسيرة حياته الأدبية الحافلة المتلاحمة صالحا لبطولة رواية عنوانها أحداث موت عقلي معلن.. وكي لا يعترف جارسيا بدبيب الزهايمر كتب وصيته علي فراش المرض يقول فيها لو شاء الله أن ينسي أنني مجرد دمية من خرق وهلاهيل, وأن يهبني حفنة من حياة أخري, سوف أستغلها بكل قواي.. سأفكر في كل ما أقوله, وسأمنح الأشياء قيمتها, لا لما تمثله, بل لما تعنيه. سأنام قليلا, وأحلم كثيرا, مدركا أن كل لحظة نوم هي خسارة لستين ثانية من النور, وسوف أسير فيما يتوقف الآخرون, وسأصحو فيما الكل نيام, ولو شاء ربي أن يهبني حفنة حياة, سأرتدي ملابس بسيطة وأستلقي علي الأرض عاريا, ليس من جسدي وحسب بل من روحي أيضا, وسأبرهن للناس كم يخطئون لو اعتقدوا أنهم لن يكونوا عشاقا متي شاخوا, فهم لا يدرون أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق.. وللطفل سوف أعطي الأجنحة, لكنني سوف أدعه يتعلم التحليق وحده, وللكهول سأعلمهم أن الموت لا يأتي بسبب السن بل بفعل النسيان.. لقد تعلمت أن الجميع يريدون العيش في القمة غير مدركين أن سر السعادة في كيف نتسلق الجبل, وتعلمت أن المولود الجديد حين يشد علي إصبع أبيه للمرة الأولي يعني أنه أمسك بها إلي الأبد.. الغد ليس مضمونا لا للشاب ولا للمسن, وربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي تري فيها أولئك الذين تحبهم, فلا تنتظر أكثر, تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتي, ولابد أن تندم علي اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة, أو أن تقول فيه أحبك.. حافظ بقربك علي من تحب. اهمس في أذنهم أنك بحاجة إليهم. اعتن بهم, وخذ من الوقت ما يكفي لتقول لهم عبارات مثل: أفهمك, سامحني لك حق, واحشني, أنت الأحسن, من فضلك, شكرا, وكل كلمات الحب التي تعرفها واطلب من الرب الحكمة والقوة للتعبير عنها, وبرهن لأصدقائك وأحبائك كم هم مهمون لديك.
في شرخ الشباب سألوا جارسيا ألا تخاف الشيخوخة؟ فكانت إجابته وكأنما يقرأ ما يحمله له الغد: يكفيني أن أستطيع مواصلة الكتابة, إذا تحقق لي هذا الهدف فسأكون إنسانا نافعا حتي لو وصل عمري مائة سنة.. أنا أروي الحياة, وهي موضوع يصبح أكثر غني وثراء كلما طالت الحياة.. لذلك فإن ما يشغلني هو الانحطاط الجسدي الذي لن تنفع معه التمارين ولا الممارسات الرياضية.. الشيخوخة تعني المستحيل.. وأنا حتي الآن لم أدخل في جب هذا المستحيل فلم يحدث أنني استيقظت في الليل كالكهول السهرانين ينظرون للسقف, ولم أحس إطلاقا بجهد وأنا أصعد السلم.. ويجيب جارسيا عن الموت الذي ترفرف أجنحته فوق الكثير من سطوره الأدبية قائلا: في لحظة ما من الحياة لا يعود الموت مجرد احتمال, فيصبح يقينا يؤثر علي كل تصرفاتنا, ولا ضير في أن يكون الأمر هكذا.. هذا لا يعني أن الموت شعور مأساوي في الحياة, لكنه يعطي الحياة بعدا لا مفر منه, فاليقين بحدوث الموت يجعل الإنسان يدرك أنه إذا كانت لديه رغبة في فعل شيء, عليه أن يفعله لأن الوقت ليس بلا نهاية.. إنه شعور إيجابي. أنا شخصيا أعي أهمية حياتي, وبالتالي أهمية الخطر الأكبر الذي يتهددها, وبعدما رزقت بأولادي أصبحت أخاف ركوب الطائرات أكثر وأكثر.. الموت لا يسبب لي خوفا.. لكني ككاتب أخاف من حالات النزع الأخير.. هذه المسألة تشغلني كثيرا وهي الوحيدة التي لا أتجرأ في الكتابة عنها!
وحول الفارق بين الكاتب الشاب والكاتب المخضرم أجاب ماركيز عندما بلغ السبعين: كل صفحة يكتبها القلم الشاب كأنها قصيدة, تحمل الاندفاع المتحمس والدفقة والإلهام, وهذا الأخير من القوة بحيث أن التكنيك يتراجع ليصبح أمرا ثانويا.. وبعد تقدم السن يعرف الكاتب ماذا يريد أن يقول, وهناك أكوام من أشياء يمكنه أن يرويها, حتي وإن واصل كل حياته يتحدث عن طفولته, وهنا يتدخل الوعي والتجربة الناضجة ويصبح الاهتمام بالتكنيك قضيته الأولي, ولاشك أنه في هذا العمر المتقدم يكتب بتمهل وعناية أكبر, وربما بإلهام أقل, وهذه أكبر مشاكل الكاتب المحترف.. وعندما كنت مبتدئا لم أكن أدون الملاحظات التي تمر في ذهني, فكنت مقتنعا وقتها بأنني سأتذكرها حتما إن كانت جيدة, أما الآن فأنا أدون كل شيء كي لا يهرب مني كل شيء! وعموما لا يمر بي أكثر من يوم بدون كتابة, وأنا لا أستريح بين كتابين, فعندما أكمل كتابا يجب أن أبدأ الثاني في الحال لأني أشعر بسخونة في يدي إذا تركتها تبرد لن أبدع أبدا, وسوف أضطر لتعلم الكتابة من جديد.. والآن عندما أقرأ كتبي السابقة ويوجد كلام عن شخصية كبيرة في السن أفاجأ أن هذه الشخصية العجوز أصغر مني في السن حاليا, فأقوم بزيادة سن الشيوخ في رواياتي.. وعموما أعتقد أن القارئ يتعثر حين أتعثر أنا, وحين يتعثر القارئ يستيقظ, وإذا ما استيقظ فهناك خطر من أن يفلت ويهرب, وأنا يهمني في الدرجة الأولي أن أمسكه من عنقه منذ البداية ولا أفلته حتي آخر سطر.. ولقد حرصت علي أن يظل الإيقاع مصاحبا لكلامي, فالإيقاع له أهمية كبيرة, وأيضا وقع الكلمات وتناسقها, فلا يجب مثلا أن يقفز أرنب ما في سطر ما, فيفزعه ويبعده.. ولا أفكر بالعنوان عندما أكتب, وعنوان مائة عام من العزلة وجدته وأنا في السطر ما قبل الأخير من الرواية.. و..عندما كنت صحفيا لم أجر حوارا مع أحد, وبرغم ذلك كتبت عدة آلاف من المقالات, كانت طريقتي في الصحافة مختلفة, كنت أتابع المستجدات وأعرض وجهة نظري علي القراء وليس وجهة نظر فلان وفلان.. واليوم لا يستطيع الصحفيون الكتابة.. كل ما يفعلونه هو الاستشهاد بالآخرين.
المتابع لأعمال جارسيا ماركيز يجد شخصية الديكتاتور تستحوذ علي سطوره, وذلك منذ حلقت طائرة ديكتاتور أمريكا اللاتينية بيريز جيمينيز فوق مدينة كاراكاس في الساعة الثانية من صباح23 يناير1958, وكان جارسيا وقتها يعمل صحفيا يقف متطلعا في شرفة الجريدة في سان برناردينو.. ليكتب بعدها تفاصيل المشهد: نوران أحمران يضيئان وينطفئان في السماء المظلمة والطائرة تحلق علي ارتفاع منخفض فوق مدينة أخلاها حظر التجول, ولكنها لم تكن نائمة.. مدينة تكتم أنفاسها في انتظار لحظة سقوط الديكتاتور ومغادرته البلاد.. الطائرة التي أنهت ديكتاتورية استمرت ثمانية أعوام في فنزويلا وكان علي متنها الديكتاتور وزوجته وبناته ووزراؤه وأقرب أصدقائه. كان الديكتاتور مهتاجا من شدة الألم العصبي, ويشعر بالسخط البالغ من سكرتيره الخاص لأن الأخير كان قد نسي أثناء تعجلهم في الهروب حقيبة بها11 مليون دولار أسفل سلم الحبال الذي تسلقوه ليصعدوا إلي الطائرة التي ما أن حلقت في الجو وطارت بعيدا باتجاه الكاريبي حتي قطع المذيع برنامج الموسيقي الكلاسيكية الذي لم ينقطع علي مدي ثلاثة أيام ليعلن نبأ سقوط الديكتاتور.. بعدها مباشرة.. أخذت الأنوار الواحد تلو الآخر مثل شموع شجرة عيد الميلاد تضاء في نوافذ مدينة كاراكاس.. ووسط الهواء المثلج وضباب الصباح المغبش انفجرت قنبلة الابتهاج الجامح.. دوي الكلاكسات والصيحات وصفارات المصانع والرايات ترفرف من السيارات واللوريات وحشود تحمل السجناء السياسيين عاليا فوق الأكتاف خارج مبني الأمن القومي الذي حطمت أبوابه قبل أن تضرم فيه النيران بأيدي المحتفلين. تلك المرة الأولي التي يشاهد فيها جارسيا سقوط ديكتاتور في أمريكا اللاتينية, وبصفته صحفي في مجلة أسبوعية وقتها عاش تلك اللحظات المشحونة المتفردة بكل ما في الكلمة من معني لتظل فكرة كتابة رواية عن الديكتاتورية تراوده لمدة سبعة عشر عاما حتي خرجت في رواية خريف البطريق.. من بعدها بدأ جارسيا ماركيز في تتبع السير الذاتية للحكام المستبدين ليكتشف ما أدهشه من أن جميع حكام أمريكا اللاتينية الطغاة قد أصابهم الجنون, فمنهم الديكتاتور دوفالييه في هايتي الذي قتل جميع الكلاب السوداء في البلاد لأن أحد أعدائه حول نفسه إلي كلب أسود خوفا من السجن والقتل!.. والديكتاتور فرانسا في باراجواي الذي أمر جميع الرجال فوق العشرين بالزواج فورا, وأغلق جميع حدود بلاده وكأنه يغلق باب منزله, تاركا نافذة واحدة مفتوحة يصل من خلالها البريد.. والديكتاتور الصوفي ماكسيميليا هيرناندز في السلفادور الذي أصدر أوامره بتغطية مصابيح الطرقات بورق أحمر لمقاومة وباء الحصبة, إلي جانب اختراعه لبندول يعلقه فوق أطباق طعامه للتأكد من أنه خال من السم.. والديكتاتور جوان فسينيت جوميز في فنزويلا الذي اعتاد إذاعة نبأ وفاته ليفاجأ الجمهور بأنه قد عاد بإرادته الفولاذية مرة أخري إلي الحياة.. ويكتشف ماركيز أن الديكتاتوريين يشتركون في العديد من الصفات منها أن جميعهم أبناء لأرامل, ومن هنا فإن الشخصية المهيمنة علي حياتهم هي الأم, وبالتالي فلا وجود للأب أو نفوذ له منذ البداية, وغالبيتهم يموتون علي أسرتهم في سن متقدمة للغاية, أو أنهم يقتلون أو يهربون.. لكنهم في أمريكا اللاتينية لا يمثلون مطلقا أمام المحكمة!!
ماركيز الأديب والفنان والمفكر صاحب الضمير الإنساني النزيه من تعود في حياته وكتاباته علي أن يتحمل المسئولية دون أن يطالبه أحد بذلك, آخذا علي نفسه أمام الدنيا كلها منذ البداية عهدا بأن يجعل مهنة القلم جهادا نبيلا من أجل الإنسانية.. جابرييل جارسيا ماركيز لم يتردد في عام2002 أن يعلن في بيان حماسي حول مقاومة الشعب الفلسطيني بقوله: أعلن اشمئزازي من المجازر التي ترتكبها يوميا المدرسة الصهيونية الحديثة, وأطالب بترشيح أرييل شارون لجائزة نوبل في القتل, سامحوني إذا قلت أيضا إنني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل.. أنا أعلن عن إعجابي غير المحدود ببطولة الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الإبادة رغم إنكار القوي العظمي أو المثقفين الجبناء أو وسائل الإعلام أو حتي بعض العرب لوجوده.. وعلي نفس دربه اللاتيني المنصف قام الزعيم كاسترو في كوبا بقيادة مظاهرة في عام2001 شارك فيها عشرة آلاف مواطن كوبي لتأييد انتفاضة شعب فلسطين, والدعوة إلي أن ينال هذا الشعب حقوقه الضائعة, وكان كاسترو يمشي في الصف الأول من المظاهرة الكبيرة, وكان آخر من انصرف بعد انتهاء المظاهرة.
القارئ لتاريخهما.. المتأمل لأعمالهما.. الغائص في بحور شخوصهما.. لابد وأن يجد أوجها كثيرة للتشابه بينهما.. جارسيا ماركيز في أمريكا اللاتينية ونجيب محفوظ في مصر.... كلاهما لم يصل إلي العالمية لأنه صاحب موهبة فذة فقط, بل لأنه حافظ عليها وصانها من عناصر التدمير الذاتية أو الخارجية, مثل الإغراءات اللامعة أو القهر الذي لا يقوي علي مقاومته أي فنان, وكانت حكومة كولومبيا قد عرضت علي ماركيز بعد شهرته أن يغدو قنصلا لبلاده في برشلونة وبالفعل صدر القرار بذلك عام1982 فرفض ماركيز قائلا في رسالة نشرتها جريدة اسبكتادور: حينما كنت مجهولا مغمورا لم يعرض علي منصب القنصل, والآن أصبحت أعيش بفضل قرائي, فلا يحق لي أن أغير رأيي أو عملي, وقد أعلنت مرارا أني أرفض المناصب العامة والإعلانات المالية من أي نوع كانت, ولم أستلم سنتيما واحدا لم أربحه.. وأعتقد أن كل معونة مادية لا تتصل بمهنة الكتابة, تعرض استقلالية الكاتب للخطر, واستقلالية الأديب في رأيي أساسية لدرجة تعدل معها القدرة علي الكتابة.. أكثر من هذا, فإنني لم أذهب لتسلم الجوائز التي حصلت عليها في عدة بلاد, ولم أشارك في أي نشاط لترويج كتبي, ولم أفعل ذلك كله بدافع التعالي والغرور, وإنما لأنني أعتقد أن العمل الشريف الوحيد الذي يجب أن يقوم به الكاتب حتي تنتشر كتبه.. هو أن يكتبها جيدا, ومن دواعي رفضي لمنصب قنصل برشلونة أني لا أستطيع أن أكون في خدمة حكومة لا أؤمن بمبادئها الجوفاء, ولا بفحولتها الانتقامية.. إنني أختلف مع النظام بكل جوانبه, ولن أكون أبدا كاتب ربطة عنق مثل شعبي في كولومبيا معناه أن يعيش الإنسان مرفها في وظيفة بالواسطة وأستطيع أن أخدم وطني دون أن أستغل هذا الوطن, ودون أن أكون في خدمة الحكومة.. إنني أستطيع خدمة وطني بترفعي, وأنا أتابع الكتابة محافظا علي هذا الترفع.
صاحبا الحرافيش ومائة عام من العزلة.. صاحبا العفة والكرامة.. صاحبا الاستقلالية.. صاحبا نوبل اللذان لم يذهبا لحفل استلامها, رافضا ربطة العنق بمعناها الرمزي والواقعي, فما من أحد منهما ارتدي ربطة عنق في يوم من الأيام.. صاحبا الأدب العالمي بجميع لغات الأرض.
مازلت أذكر أزرارا ماسية لأكمام القميص الرجالي حملتها لنجيب محفوظ في شقته بالدور الأرضي بالعجوزة هدية من الأهرام إليه في عيد ميلاده, فدوت ضحكة السيدة الفاضلة عطية زوجته عند رؤيتها قائلة بود بالغ يمسح إحباطي:
- يا حبيبتي نجيب محفوظ عمره ما لبس قميص بزراير ولا دبوس لكرافتة!
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.