كم أنت غالية أيتها الحرية, ومن أسف فإن أهلك أهلكوك, نحن أهلك, وكان يجب أن يصبح لفظك العربي صكا عالميا , إلا أننا تركناك للآخرين,فأصبحنا نقول عنك أنك ليبراليةLiberal, هذه بضاعتنا ردت إلينا, ومع ذلك خاصمك شيوخنا ودعاتنا وهم لا يدركون نسبك وفضلك فقالوا: إن من ينتهج فكرك قد كفر وخرج عن جادة الصواب, ولكن أين هم من الحق!! وأين هم من سيدنا عمر بن الخطاب الذي أدرك وفهم. نعم كان عمر بن الخطاب حكيم هذه الأمة ليبراليا, كتب العقاد عن عبقريته, فهل كتب أحد عن ليبراليته؟ نعم كان عمر ليبراليا, تعلم الليبرالية وعاش بها وفيها, من القرآن قرأ عمر(إنا عرضنا الأمانة علي السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان..) فكانت الأمانة هي الحرية, حرية الإنسان في الاختيار, حرية الإنسان في الاعتقاد( لا إكراه في الدين) والكفر( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر), حرية الفكر والتعبير والاختلاف في الرأي( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين), ثم قوله( ولذلك خلقهم) وغير ذلك كثير. كانت خطبة عمر يوم تولي الخلافة هي دستوره في الحرية, ومفهومه لها وبعد ذلك ألزم نفسه بما اعتقده, كان هذا هو عهد عمر الفاروق مع نفسه, فقد كان رضي الله عنه لا يحفظ السورة من القرآن حتي يعمل بها ثم ينتقل لغيرها. يا الله, كل الناس عندك سواء يا عمر, لن تترك ظالما يعتدي علي أحد إلا إذا وضعت خده علي الأرض وأخذت لصاحب الحق حقه, كائنا من كان من اعتدي وظلم, وكائنا من كان من وقع عليه الظلم, فحرية الإنسان فوق كل اعتبار, هذا هو العهد الذي فهمته يا عمر من رسول الله صلي الله عليه وسلم فقطعته علي نفسك. ولذلك خرجت كلمته تصك آذان الظالمين في كل عهد وتسفع خدودهم متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا نعم متي استعبدتم الناس, ويشاء الله أن تكون هذه القصة, لتكون هذه العبرة, أظن أنكم تعرفونها, وأظن أن دعاتنا يحفظونها عن ظهر قلب إلا أن العلم له مراتب, مرتبة الظاهر, وهذه يحصلها أصحاب العقول الحافظة, ومرتبة الباطن وهذه يحصلها أصحاب القلوب الواعية. جاء مصري, غير مسلم, إلي الخليفة عمر, شد الرحال إليه وقطع الفيافي باحثا عن حريته التي أهدرت, دخل علي عمر خالعا عمامته رافعا صوته, مستغيثا: يا أمير المؤمنين عائذ بك أنا من الظلم, ألستم تزعمون أنكم تحفظون للناس حرياتهم, كل الناس ولو خالفوكم في الدين, قال عمر بصوت خفيض وهو يطرق إلي الأرض: عذت معاذا يا رجل, قل ما عندك, قال المصري وهو يحكي شكايته: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته, فغضب واقتادني وجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين, شق ذلك علي عمر, أفي عهده وخلافته يظلم الناس وتضيع حرياتهم, أين أنت يا عمر من الإسلام ومن العهد الذي تعلمته من النبي صلي الله عليه وسلم فقطعته علي نفسك؟ استضاف عمر الرجل في المدينة معززا مكرما وكتب إلي عمرو بن العاص يأمره بالقدوم علي أن يحضر ابنه معه. لم يكن أمام عمرو إلا الانصياع لعمر فقدم كما أمره, دخل علي عمر وهو يقدم قدما ويؤخر الأخري, ويلك يابن العاص, ما الذي أغضب عليك عمر؟ وفي حضرة عمر كانت المحاكمة الإنسانية التي تحض علي العدالة والمساواة, وحين صدر الحكم قال عمر: أين المصري؟ هائنذا: قالها المصري واجفا مرهفا لا يصدق ما يراه, استطرد عمر: خذ السوط فاضرب ابن الأكرمين, خذ حقك, لا تقبل أن يستعبدك أحد, كل الناس أحرار, حريتك مقدمة علي دين عمرو ودين ابنه, فجعل المصري يضربه بالسوط وعمر يستحثه قائلا: اضرب ابن الأكرمين, ثم قال عمر للمصري: ضع السوط علي صلعة عمرو, خذ حقك منه, فقال المصري وقد أخذه العجب: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه, أخذت حقي منه, شفي نفسي وأبرأ سقمها عدلك يا عمر وانتصارك للحرية والمساواة, فاستدار ابن الخطاب لعمرو موبخا ولائما وعاتبا: مذ كم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ هذا هو عمر الذي طأطا رأسه أمام امرأة جادلته في المهور فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر, هذا هو عمر الذي تفصد جبينه عرقا وهو يقول لأحد المسلمين: كل الناس أفقه منك يا عمر, كل الناس أفقه منك يا عمر, كان هو الأفقه, وقد وقفوا هم المتسلفون عند الكلمة وغاص هو في الحكمة, فالعلم يصل بالناس إما إلي درجة الكلمة وإما إلي درجة الحكمة, فمن وقف عند تحصيل المظهر أتقن الكلمة, ومن غاص في الجوهر وصل إلي حقيقة الحكمة, والحكمة في الحرية, ومن الحرية المساواة, ومن كليهما فهم الغرب عنا, فتقدموا, وأقاموا ليبراليتهم بما يتناسب مع ثقافتهم وأعرافهم. ونحن دخلنا في متاهة القهر والطغيان والحكام المستبدين, فخلعنا من ديننا مفاهيم الحرية. وعشنا في فقه العبادات دون أن نمد يدا لفقه الحريات, واعتبرنا الليبرالية من الشيطان, مع أن القاعدة الأصيلة في الليبرالية هي أن لكل مجتمع ليبراليته التي تتناسب مع أعرافه وثقافته وأخلاقه. نعم كان عمر مسلما وكان ليبراليا, وكانوا هم سلفيين وإسلاميين, فانظر عمن تأخذ دينك!