مصر الدولة والمجتمع ليست مأزومة. لا توجد أزمة تستدعى مبادرات. مصر تواجه مشكلات تستدعى أفكارا وحلولا عملية قابلة للتطبيق فى ظل الظروف الراهنة. أن تواجه الدولة مشكلات ليس أمرا موجودا فى مصر فقط. جميع الدول تواجه مشكلات بصرف النظر عن طبيعتها وحدتها. بل إن إصرار الدولة على تغيير الوضع القائم والتطلع للمستقبل كفيل بخلق بعض المشكلات، أو بالأحرى التحديات، وقبل ذلك فإنه يرفع الغطاء عن الكثير من المشكلات، التى طالما تم تجاوزها أو تأجيلها أو حتى إنكار وجودها. المشكلات التى تواجهها مصر حاليا خلطة من كل ذلك. ويقينا فإن الدولة تتعامل معها. نجحت فى بعضها وتحاول فى البعض الآخر. ولكن المؤكد أنه لا توجد أزمة بالمعنى الدقيق للكلمة وبعيدا عن الاستخدام السياسى المغرض للكلمة. وجود معارضة حقيقية، كمها تعرفها دول العالم المتقدم، علامة صحية. وبالقطع فإن النظام السياسى لأى دولة لا يكتمل دونها. ولكن الحقيقة تقتضى أيضا الاعتراف أولا بأن الصورة المشوهة من المعارضة، التى تغلب الاعتبارات الشخصية والمصالح الضيقة، تكون وبالا على الدولة والمجتمع بل وعلى المعارضة نفسها. وثانيا أنه لم يقدر لمصر أن تعرف معارضة حقيقية إلا فى فترات محدودة من عمرها الطويل، بينما ساد نمط المعارضة الشكلية التى لا تعرف سبيلا للمعارضة سوى معارضة أى قرار أو توجه يتخذه النظام الحاكم وانتظار فترات تصاعد المشكلات أو الاحتقان الشعبى لمغازلة الرأى العام وتعبئته ضد الدولة. وظلت المشكلة دائما كما هى الآن أن تلك المعارضة غير جاهزة لملء الفراغ، الذى قد ينشأ فيما لو دانت لهم السلطة. لم تتعلم تلك المعارضة من المواقف الكثيرة التى مرت بها مصر وآخرها كارثة استيلاء الإخوان على السلطة فى غفلة المعارضة والكثير من القوى السياسية. وما زال البعض ممن ينتمون أو يصرون على تصنيف أنفسهم باعتبارهم معارضة يمارس الأفعال نفسها، التى لا يوجد ما يمنع من تحولها فى لحظة ما إلى جرائم يدفع ثمنها المصريون فى المقام الأول. إذ تشير تجربة السنوات الماضية إلى أن معظم هؤلاء يولون الدبر عندما تقع الواقعة، فبعضهم يغادر البلاد والبعض الآخر ينصرف إلى مصالحه الشخصية، وآخرون يؤثرون الدخول فى بيات طويل انتظارا لمعاودة الكرة حينما تسمح الظروف، وإن لم تسمح حاولوا اختلاقها. وفى الوقت الذى لم يقدم هؤلاء أفكارا أو حلولا للمشكلات التى تواجهها الدولة أيا كانت تلك المشكلة، فإنهم دائما ما ما يلجأون إلى طرح المبادرات، باعتبارها هوايتهم المفضلة التى لا يجيدون سواها. طرح المبادرات سهل ولا يكلف أكثر من الحبر والورق التى تكتب به. طرح المبادرات طريق سهل لتحقيق هدف الوجود والشهرة وتقدم الصفوف. ومن ثم، فإنهم يتنافسون فى طرحها. كل من يتوهم فى نفسه الأهلية والأحقية فى قيادة المعارضة يطرح مبادرة يستلهم فيها ما يمكن أن يلقى هوى المتابعين، أو بالأحرى الدراويش وكذلك الداعمون. وحيث إن طرح المبادرة لا يكون إلا للخروج من أزمة، فإنهم يختلقون تلك الأزمة ويدعون أنها حقيقية وأن عدم التعامل معها يعنى عدم الإخلاص للدولة ومستقبلها، بل يخونون من لم يطرح مبادرات مثيلة، أو على الأقل لا يتعامل مع مبادراتهم بالشكل الذى يتخيلونه. وخلال الفترة الأخيرة تسابق عدة أشخاص للحصول على حق قيادة هؤلاء الدراويش من خلال طرح مبادرة خاصة ودون تنسيق مع الآخرين، أو هكذا يتم تصوير الأمر. الهدف من كثرة المبادرات إيهام الرأى العام بأن الأزمة حقيقية، والادعاء بعدم التنسيق مع قوى بعينها يهدف إلى إقناع الرأى العام بأن المبادرة تستهدف الصالح العام، بعيدا عن تلك القوى التى لا تحوز رضاء أو ترحيب الرأى العام. ومع ذلك فإن المتابع لكل المبادرات التى خرجت لن يجهد فى ملاحظة أوجه الشبه إلى حد التماهى بينها. وجدير بالذكر أيضا ملاحظة الجرأة فى طرح المبادرات فى توقيت واحد تقريبا وكأننا إزاء سوق انعقدت لطرح المبادرات عل إحداها يلقى تجاوبا من قبل الرأى العام، ثم دوران الآلة الإعلامية المعادية للأوضاع فى مصر لإلقاء الضوء والتفاعل المكثف مع تلك المبادرات. ومن بين المبادرات العديدة التى شهدتها سوق المبادرات مؤخرا كانت مبادرة السفير معصوم مرزوق، وهى المبادرة التى نالها الكثير من التعليق والانتقاد والهجوم فى آن واحد. الاهتمام بمبادرة معصوم لم يكن بسبب أهميتها أو أن جديدا قد حملته، ولكن بسبب أنه يعد وافدا جديدا بشكل أو بآخر لسوق المبادرات أو بالأحرى لسوق الدجل السياسى. وكما هى العادة فإن الدجالين ينقسمون فى تعاملهم مع الوافد الجديد إلى مهنتهم إلى قسمين: الأول يبدو مرحبا لتوسيع رقعة مقدمى الدجل، والثانى يبدو معارضا للحفاظ على مكانته لدى دراويش الدجل، أما الدولة ومعها مناهضو الدجل أيا كان مجاله لتأثيره الخطير على المجتمع فإنهم يشمرون سواعدهم على الفور لمواجهة زيادة معسكر الدجل شخص آخر بصرف النظر عن ماهيته وعن الأسباب التى دفعته لذلك. لقد عانت مصر اقتصاديا وسياسيا ودينا وطبيا وما زالت تعانى ويلات الدجل والدجالين وظروفها الحالية لا تسمح بأى حال من الأحوال بمزيد من الدجل والدجالين. والدجل السياسى فى دولة عانت الكثير خلال السنوات الثمانى الماضية لا تقل خطورته بل تزيد على خطر كل أنواع الدجل الأخرى. وكما يحدث فى مجال الدجل عامة، فإن الهجوم عليه وكشف زيفه وإجباره على الانزواء و»الكمون» لا يعنى مطلقا انتهاءه. فلا توظيف الأموال انتهى، ولا التماس العلاج بعيدا عن الطب والأطباء والدواء تراجع، ولا اللجوء للعرافين والمشعوذين اختفى، ولا حرمان أصحاب الفتاوى الشاذة من الظهور أنهى تلك الفتاوى والاعتقاد فى صحتها. وبالمثل فإن مرور تلك الموجة من مبادرات الدجل السياسى لا يعنى أن الدجل السياسى انتهى وأننا لن نشهد قريبا موجة ثانية وثالثة منه. فالطلب على الدجل السياسى سيظل قائما، طالما وجد متيمين به، وطالما وجد من يتصور أنه ما زال بإمكانه خداع المصريين مرة أخرى، وتصوير مشكلات مصر على أنها أزمات لا حل لها إلا بالدجل! لمزيد من مقالات د. صبحى عسيلة