تحولت الأزمة السورية إلى مستنقع كبير، تتحرك فيه دول وجماعات ومنظمات وأجهزة مخابرات تحارب مباشرة وبالوكالة على الأراضى السورية، ويدفع أهلنا فى سوريا وحدهم الثمن باهظا من قتل وخراب وتشريد. ولن تكون جماعة (الخوذ البيضاء) هى آخر الألغاز التى تخرج من قلب المستنقع السورى، بعد أن استنفدت مهمتها الحقيقية، وانكشف أمرها. وهذه الجماعة التى تعرف أيضا باسم الدفاع المدني السورى أو القبعات البيضاء هي منظمة دفاع مدنية تطوعية تعمل في المناطق التى تقع تحت سيطرة المعارضة في سوريا، تأسست عام 2013، وتتألف من ثلاثة آلاف متطوع سورى مدنى، وتقول إنها تهدف إلى إغاثة المتضررين جراء الحرب فى سوريا، ويقع مركزها الرئيسي ما بين مدينتي امستردام واسطنبول ويتلقى عناصرها دورات متعددة في تركيا. والمفترض فى مثل هذه الجماعات الإغاثية التطوعية أن تكون على الحياد التام بين جميع الأطراف، لكنى سمعت بنفسى رائد الصالح مدير المنظمة فى حوار هاتفى مع إحدى الفضائيات المصرية، وهو يصف مفهوم الحياد بتقديم الخدمات الطبية الإغاثية لجميع الأطراف دون تمييز، لكن هذا على حد قوله لا يعنى ألا يكون للمنظمة موقف سياسي وكشف حقيقة ما يحدث على الأرض. هذه التصريحات تنسف فكرة الحياد من أساسها، لأنها تكشف عن انحياز المنظمة إلى أحد الأطراف المتصارعة، علاوة على أن فكرة تقديم الخدمات لجميع الأطراف دون تمييز غير متحققة على الأرض، لأن هذه المنظمة عمليا تعمل فى الأراضى التى تسيطر عليها المعارضة فقط. وقد تسببت فى مشكلات عديدة من قبل نتيجة تحيزها السياسى، كان أشهرها الزعم باستخدام القوات الرسمية السورية أسلحة كيميائية، وتصوير فيديوهات تؤيد هذا الزعم لم يثبت صحتها بعد ذلك. ومع تقدم الجيش السورى فى المناطق التى تسيطر عليها المعارضة، شعرت عناصر الخوذ البيضاء بالخطر، خاصة بعد تصريحات الرئيس السورى بشار الأسد خلال مقابلة مع وسائل إعلام روسية أكد فيها إن نشطاء منظمة الخوذ البيضاء الذين رفضوا تسليم أسلحتهم سيتم القضاء عليهم حالهم كحال الإرهابيين، وأن هذه المنظمة هى فى الحقيقة قناع لجماعة النصرة الإرهابية. ومع هذا الخطر تفجرت أزمة كبيرة بقيام اسرائيل بنقل مجموعة من الخوذ البيضاء وأسرهم من سوريا إلى الأردن عبر إسرائيل، كما أعلن الأردن أنه أذن بمرور 800 مواطن سوري بالتنسيق مع الأممالمتحدة عبر أراضيه لتوطينهم في دول غربية، بعد أن قدمت بريطانيا وألمانيا وكندا تعهدا خطيا ملزما قانونيا بإعادة توطينهم خلال فترة زمنية محددة بسبب وجود خطر على حياتهم. هذه العملية تثير تساؤلات عديدة تكشف عن حقيقة ما يجرى فى المستنقع السورى، فصحيفة االوطن« المقربة من الحكومة السورية نقلت عن مصدر في الخارجية السورية قوله: إن العلاقة تكشفت أمام العالم حول ارتباط هذا التنظيم بإسرائيل ومخططات الدول الغربية بما في ذلك بشكل خاص مع الولاياتالمتحدةوبريطانيا وكندا وألمانيا، وتمويل هذه الدول السخي للنشاطات الإرهابية لهذا التنظيم في سوريا، وأن الأممالمتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية اعتمدت روايات كاذبة روج لها تنظيم الخوذ البيضاء في كل الاجتماعات التي عقدت في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية ومجلس الأمن من قبل الدول الممولة لها، كما تم اعتماد أقوال هذا التنظيم في تقارير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية مع كل ما تتضمنه من تزوير وابتعاد عن الحقيقة. وهناك تساؤل مهم بهذا الصدد، فالحكومة السورية تتفاوض مع الجماعات الإرهابية فى المناطق التى تسيطر عليها، وتسمح لعناصرها بالخروج إلى مناطق أخرى يتم تجميعهم بها بعد قيامهم بتسليم أسلحتهم، فلماذا لم يدخل عناصر الخوذ البيضاء فى مثل هذه المفاوضات ويرحلون مع تلك الجماعات إلى مناطق آمنة داخل سوريا، خاصة انهم لم يشاركوا مباشرة فى القتال. فإذا كان من حمل السلاح وقاتل وافقت السلطات السورية على التفاوض معه، وبقى فى منزله أو انتقل الى الشمال السورى بأمان بعد تسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، فلماذا أصبحت جماعة أو منظمة الخوذ البيضاء حالة خاصة تتداعى عدة دول لإخراج عناصرها من سوريا عبر إسرائيل، والتى تعهدت عدة دول باستضافتهم لديها خلال الاشهر الثلاثة المقبلة ؟! والتساؤل الثانى، لماذا لم يتم إجلاء جميع عناصر الخوذ البيضاء الذين يصل عددهم إلى ثلاثة آلاف وأسرهم، واقتصرت عملية الإجلاء على عدد بسيط منهم فقط، بينما تم إبلاغ الباقين بضرورة التفاوض مع السلطات السورية للخروج مع المقاتلين الذين ينتقلون إلى شمال سوريا. وهذا الأمر يذكرنا بعملية إخلاء عناصر قيادية من تنظيم داعش في منطقة دير الزور بواسطة طائرات الهليوكبتر الامريكية عشية هجوم الجيش السورى عليهم، وقيل وقتها إن هؤلاء من المتعاونين مع المخابرات الأمريكية، فهل عناصر الخوذ البيضاء الذين تم إجلاؤهم بسرعة من المتعاونين مع مخابرات دول غربية، ويخشى البعض من اعترافهم للسلطات السورية بذلك، ولهذا تمت عملية الإجلاء بسرعة، بينما تم ترك أغلبية أعضاء المنظمة للتفاوض مع السلطات السورية والمغادرة عن طريقها؟ لقد وضح جليا أن المستنقع السورى سينضح بكثير من الأسرار، كلما تقدمت عملية سيطرة الجيش السورى وحلفائه على الأرض، فعشرات الجماعات المسلحة التى تحارب هناك بالوكالة قد تجد نفسها فى أوضاع صعبة، وتورط قوى عظمى وأخرى إقليمية فى هذا المستنقع يعنى أن المعارك لن تتوقف إلا بتسوية سياسية تحمى مصالح الجميع، وتحقق لهم أهدافهم، وهو أمر معقد للغاية يؤدى إلى إطالة أمد الأزمة، مع تصاعد حدة الأوضاع الإنسانية للاجئين والنازحين، والتسويات الجزئية التى تتم أحيانا بين بعض الأطراف وبعضها الآخر. لقد أضحت سوريا نموذجا لمحاولات هدم الدولة الوطنية ومؤسساتها، التى شرعت بعض الجماعات المسلحة المدعومة من قوى إقليمية ودولية فى تنفيذها فى المنطقة العربية، وهى محاولات تشكل خطرا داهما على الأمن القومى العربى، ويستلزم على جميع الدول العربية مراجعة حساباتها، قبل فوات الأوان. كلمات: أنت أعمى، وأنا أصم أبكم، إذن ضع يدك بيدى فيدرك أحدنا الآخر جبران خليل جبران لمزيد من مقالات ◀ فتحى محمود