الخطب الحماسية والرؤية العظيمة والخطط التنموية لم تعد كافية لإحداث تأثير كاف في حياة الناس ولا في تطور المجتمعات التي بات العديد منها مقيدة بمحدودية الموارد وصعوبات الأوضاع والتحديات الاقتصادية ولم تعد تستطيع تحقيق تطلعات المواطنين وبعضها لا توفر الحد الأدنى من العيش الكريم لأفراده, العالم يتغير وتتسارع خطى التغير وكأنه على شفى بركان من التحولات على مستوى الحكومات والشركات والأفراد. العالم يتغير ومازالت الحكومة المصرية تقضي معظم وقتها في الحديث عن تغليظ عقوبات قانون المرور وقانون التحرش وبقاء أو إزالة الدعم وتقاوم أجهزتها الفقر بالتحويلات النقدية والتي يعود جذورها إلى الحرب العالمية الثانية وقت بدء تقديم معاشات للفئات غير القادرة، ولا ننكر الجهد المالي المقدم من الدولة، لكن التجارب تظهر أن برامج المعونات النقدية لم تستطع اخراج الفقراء من الفقر في أي من دول العالم, وإن أكثر ما تستطيع هذه البرامج القيام به هو التخفيف من فجوة الفقر وعمقه كما لم يستطع الدعم النقدي المشروط مساعدة الفقراء على الارتقاء إلى الطبقة المتوسطة، والإلزام بتعليم الأطفال لا يعني أن هؤلاء سيجدون فرصاً مميزة في سوق العمل، وهذا ما جعل العديد من المنظمات الدولية تتحول في أدواتها لتدعم مبادرات الإبداع والابتكار الاجتماعي وتغيير السلوك فبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي على سبيل المثال افتتح مركزاً للابتكار الاجتماعي لمساعدة الجمعيات في ابتكار الحلول الملائمة لمجتمعاتهم بدل من نقل التجارب, والكثير منها حالياً في مرحلة الانتقال من تمويل برامج مكافحة الفقر التقليدية بالتمكين الاقتصادي الى برامج تغير السلوكيات وزيادة المهارات الحياتية ودعم الابتكار والابداع المجتمعي وهناك توجه عالمي لتصميم البرامج والخدمات للحكومات والشركات بالتركيز على احتياجات الإنسان. وحتى في الولاياتالمتحدة حيث بدأت مبادرات تغير سلوك الفقراء تشق طريقها خاصة في الحث على الادخار والانفاق على أفراد الأسرة. وفي عام 2010 أُطلق أول مشروع كبير لتطبيق الرؤى السلوكية لبرامج الخدمات البشرية التي تخدم الأسر الفقيرة في عدة ولايات أمريكية بهدف استخدام أدوات التحفيز السلوكي لتقديم خدمات أكثر فعالية وتحسين رفاهية الأطفال ذوي الدخل المنخفض وكبار السن وأفراد العائلات بشكل عام, وأوضحت النتائج أن حملة التحفيز والدفع قد حققت اهدافاً غير متوقعة, فمثلاً زادت من حصة الآباء غير الحاضنين الذين دعموا أطفالهم، وحققت معدلات ادخار غير مسبوقة بين هذه الفئات. مثال آخر في محاربة البطالة, فأقصى ما يمكن أن تقدمه الحكومات للعاطل هو التدريب على بعض المهارات لبدء مشروع صغير وإتاحة المعلومات عن سوق العمل وإتاحة فرصة التواصل مع أرباب العمل بفعالية, (ومبلغ تأمين ضد التعطل في بعض الدول), لكن هذه الأساليب لم تعد تحقق النتائج المرجوة, ليس فقط بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي وتقلص ميزانيات هذه البرامج وزيادة العاطلين ولكن نظراً لطبيعة التحول التكنولوجية وفقدان الكثير من الوظائف السهلة التي لا تحتاج الى مهارات وإتقان عال في مقابل خريجين يفتقدون للسلوكيات والتوجهات الملائمة، تجربة مبدعة قامت بها وزارة القوى العاملة البريطانية في استخدام نظريات تعديل السلوك على الباحثين عن عمل في المراكز الوظيفية لزيادة معدل التوظيف. وتم اجراء التحليل السلوكي للباحثين ووضع خطة « التحفيز والدفع « والتي تشمل أدوات الالتزام بالأعراف الاجتماعية والحوافز وبعد مرور ثلاثة أشهر فقط على تطوير البرنامج وجد 49% من المشاركين وظيفة، ومنذ نهاية العام الماضي تم تعميم المبادرة على كافة مراكز توظيف العاطلين في بريطانيا. في سنغافورة تكافح هيئة الكهرباء تأخير دفع فواتير الكهرباء من خلال أساليب تعديل السلوك، وتتعامل الحكومة الألمانية مع معضلة التخلص من النفايات من خلال نفس الأساليب، ومطار أمستردام في هولاندا خفض ميزانية نظافة حماماته 88% من خلال حملة مبسطة جداً... كل هذه المبادرات تتجه مباشرة إلى الأشخاص وتستخدم تغييرات صغيرة وفعالة لإقناعهم بإظهار السلوك المطلوب, وتستغل حقيقة أن الناس لا يقومون دائمًا بخيارات عقلانية ومستنيرة. وأن معظم الاختيارات تتم بشكل تلقائي وبطريقة بديهية، وأنه من الصعب تغيير هذا السلوك الاندفاعي من خلال الحجج والتشريعات. لكن يبدو أنه يتم بعمل تغييرات صغيرة في البيئة المادية. مثل تلميح خفي أو رسالة ضمنية يمكن أن يكون لها تأثير سلوكي كبير. واضح أنه لابد من الاهتمام ببناء الوعي والتركيز على تعديل سلوك الإنسان وتوظيف العلم, خاصة في فترة التحول التي نعيشها والتي يتخللها إعادة هيكلة وخفض النفقات والدعم الذي اعتمد عليه المواطن واعتبرها جزءاً من مكتسباته, والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي ركزت على مدى العقود الماضية على التعامل مع المواطن من خلال الأدوات التقليدية وسياسة العقاب والثواب تحتاج الى عادة صياغة, فظهور أدوات تعديل السلوك والالتزام بتصميم البرامج والمشروعات المركزة على الانسان والعمل على تنمية وعيه وتعديل سلوكياته والتي يطلق عليها البعض انها الطريق الثالث بين الثواب والعقاب قد غير من المعادلة, وأصبح على الدولة الآن أن تعتبر الانسان وسلوكياته في كل برامجها, قبل بضع سنوات، أرادت شركة «جنرال إلكتريك» معالجة مشكلة التدخين لدى موظفيها. وقامت بإجراء تجربة عشوائية بالتعاون مع جامعة بنسلفانيا وتم خلالها تصميم مبادرة تحفيزية لإعطاء كل موظف منحة صغيرة إذا توقف عن التدخين لمدة 6 أشهر ومنحة أكبر إذا توقف لمدة 12 شهراً. بينما تم تشكيل مجموعة أخرى تم أمرهم بالتوقف عن التدخين بالمبررات التقليدية ولم يتلقوا أي حوافز. وجد الباحثون أن المجموعات التي تلقت الحوافز كان معدل نجاح أعضائها في التوقف عن التدخين يقارب ثلاثة أضعاف نظيره في المجموعة التي لم يتم إعطاؤها أي حوافز، وأن التأثير استمر حتى بعد توقف الحوافز بعد 12 شهراً. وبناء على تلك النتائج، غيرت «جنرال إلكتريك» سياستها وبدأت في استخدام هذا النهج في التعامل مع موظفيها البالغ عددهم 152 ألفاً. فمتى تغير حكوماتنا نظرتها وتوجهاتها ونبدأ عهداً جديداً من التنمية التي تركز على الإنسان وتتوقف عن الشعارات الرنانة؟. لمزيد من مقالات د. عاطف الشبراوى