رغم مرور أيام قليلة على بداية الشهر الجارى إلا أن المكسيك شهدت خلالها أحداث كثيرة، فبعدما كان يحمل مواطنوها أمالا كبيرة فى فوز منتخب بلادهم بكأس العالم، أصيبوا بخيبة كروية عقب خروجه إلا أنهم حققوا فى الوقت ذاته انتصارات سياسية من خلال الانتخابات الرئاسية، بفوز المرشح اليسارى، اندريس لوبيز اوبرادور. بعدما نجح اوبرادور خلال حملته الانتخابية فى الظهور فى ثوب المناضل الشعبوى، الذى لا يرى أن الفوز بالانتخابات مجرد العيش فى قصر رئاسى والحصول على سلطات مطلقة، بل إنها فرصة تسمح له بتغيير وطنه والنهوض به وتحسين الظروف المعيشية لأبنائه وتحقيق كل ما يأملون به، لذا فإنه من أبرز الشعارات التى جاءت على لسانه خلال حملته الانتخابية، هى «لدى حلم بألا تكون هناك هجرة، وأن يستطيع جميع المكسيكيين العمل وإيجاد راحتهم وسعادتهم حيث ولدوا، وحيث توجد أسرهم وثقافتهم». فمنذ انطلاق الحملات الانتخابية، كانت غالبية استطلاعات الرأى، إن لم تكن جميعها، تشير إلى فوز أوبرادور، 64 عاما، على منافسيه، وذلك لنجاحه فى الظهور بثوب زعيم يسارى حقيقى منذ لازارو كارديناس فى الثلاثينيات، مما ساعده فى تحقق قاعدة شعبية كبيرة من خلال حديثه أمام حشود الناخبين عن ذكرياته، التى عاشها فى مسقط رأسه ومكان نشأته بمدينة «تيبتيان» الريفية بولاية «توباسكو» جنوبالمكسيك. ويعد أوبرادور أول رئيس مكسيكى لم يحصل على دراسته الجامعية خارج حدود المكسيك، فقد درس العلوم السياسية والإدارة بالجامعة الوطنية بالمكسيك، والتى تخرج منها عام 1976، ليبدأ أولى خطواته فى مسيرته السياسية بانضمامه إلى الحزب الثورى الدستورى، الذى كان يدير المكسيك فى معظم القرن العشرين. وفى عام 1983 ترأس مكتب الحزب فى ولاية توباسكو، وعقب دعوة الحزب الثورى إلى تطبيق المزيد من سياسات السوق الحرة، فقد انفصل عنه ليساعد فى تأسيس حزب الثورة الديمقراطية ذى الميول اليسارية، ليصبح من خلاله رئيسا لبلدية مكسيكو سيتى عام 2000. الرئيس المكسيكى يحتفل بالفوز وسط أنصاره لم يكتف اوبرادور بهذا المنصب بل كان يحمل تطلعات وطموحات أكبر حيث كان يسعى للوصول لقمة السلطة، ورغم فشله عدة مرات إلا أن ذلك لم ينل من إصراره وعزيمته، فقد خاض سباقين رئاسيين، أحدهما فى عام 2006، وخسر بفارق ضئيل أمام فيليبى كالديرون فى انتخابات اعتبرت الأكثر إثارة للجدل فى تاريخ المكسيك الحديث، بسبب الفرق الضئيل فى الأصوات بين المرشحين والذى بلغ 0٫6٪ فقط. وقاد أوبرادور آنذاك احتجاجات جماهيرية اعتراضًا على النتائج وندد «بتزوير الانتخابات»، واعتصم أنصاره، وأعاقوا حركة المرور فى العاصمة مكسيكو سيتى لعدة أشهر، والمرة الثانية كانت فى عام 2012 والتى خاضها فى مواجهة الرئيس المكسيكى السابق «انريكا بينا نيتو»، وحصل بها على نسبة 6% من الأصوات ورغم تقدمه بطعن فى فرز الأصوات إلا أنه ظل متداولا فى المحاكم دون جدوى. وفى عام 2014، أسس حزبه السياسى الخاص، حركة التجديد الوطنية أو «مورينا»، وهو اختصار يعنى «امرأة ذات بشرة داكنة», ويقول العالم السياسى فريدريكو استيفيز، أستاذ العلوم السياسية فى المعهد التكنولوجى المستقل، أن اختيار اوبرادور لهذا الاسم يدل على امتلاكه ذكاء حادا وفكرا تسويقيا هائلا، فهو يغازل الأغلبية المكسيكية التى تمتلك البشرة الداكنة، فى حين أن النخبة الغنية غالباً هى صاحبة البشرة البيضاء. وبينما كان أوبرادور يصنع قاعدة جماهيرية تدعمه وتشجعه، كانت شعبية بينا نيتو تتدنى بسبب الركود الاقتصادى، كما عانت البلاد خلال فترة حكمه من استفحال الفساد، الذى طاله شخصيا وطال زوجته، التى قامت بشراء منزل فخم ب 7 ملايين يورو من شركة تستفيد من صفقات عامة، كما وصلت معدلات القتل فى عهده لمستويات قياسية حيث ارتفعت فى عام 2017 فقط إلى 25 ألفا و110 جرائم قتل، فضلا عن مقتل عدد من الصحفيين واختفاء عدد كبير وتوجيه أصابع الاتهام إلى تقاعس دور الشرطة فى البحث عنهم بل والاشتباه فى تواطؤهم مع تلك العصابات. وقد نجح اوبرادور فى استغلال فشل بينا نيتو فى زيادة شعبيته، فكما ذكر فى مؤتمراته الانتخابية، أنه يطمح لأن يكون رئيساً مكسيكياً مثل الشخصيات التاريخية الموقرة أمثال بينيتو خواريز، وفرانسيسكو ماديرو وكارديناس، وأن أولى خطواته نحو تنفيذ وعوده ستكون محاربة الفساد والحد من البيروقراطية، وسيتصدى لعنف عصابات المخدرات عن طريق دعوة البابا فرانسيس إلى المكسيك للمساعدة فى صياغة خطة سلام، حيث يرى أن مكافحة العنف تمر عبر تأهيل الشرطة المحلية واستئصال المسئولين الفاسدين المتحالفين مع عصابات الجريمة. وقال إنه يجب التصدى لكل مرتكبى الجرائم «من الأعلى إلى الأسفل» وخصوصا الذين «يحمون هذه المجموعات الصغيرة»، مما جعل البعض يتكهن بأنه لن يسلك نفس الطريق الذى سلكه الرئيسان السابقان بينا نيتو وكالديرون بمحاربة العصابات بشكل مباشر مما فاقم من مستويات العنف، كما أعلن اوبرادور عن تخليه عن القصر الرئاسى لما يحمله من مشاعر سلطوية سيئة وسيستقر فى مبنى قديم يجعله أقرب للمواطنين. واوبرادور، الذى يطلق عليه المكسيكيون لقب «ترامب المكسيك» وذلك لأنه قادم من خارج الطبقة السياسية المعروفة والتى أعرب الكثير منهم عن سأمهم منها واشتياقهم للتغيير، ينتظره تحد كبير لمواجهة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يستلزم حنكة سياسية وخبرة دبلوماسية، بعدما وعد ترامب بتمزيق الصفقات التجارية الأمريكية مع المكسيك وإقامة جدار على الحدود لمنع «إلحاق الضرر بدولته وإنهاكها اقتصاديا». لذا وعد اوبرادور أبناء الولاياتالمكسيكية التى تضررت بشدة بسبب العولمة، التى قضت على تجارة الحرف اليدوية، وتركت أثرا سلبيا كبيرا على المزارعين، مما دفعه للتعهد بمنح المزيد من الإعانات المالية لصغار المزارعين حتى يتمكنوا من منافسة الواردات الأمريكية من المواد الغذائية مثل الذرة، إلى جانب سعيه لتحقيق الهدف الأهم وهو تحقيق الاكتفاء الذاتى بالمكسيك، ولكنه لم يصل إلى حد الدعوة إلى حرب تجارية مع الولاياتالمتحدة رداً على رفع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للرسوم الجمركية، فالمكسيك، ثانى أكبر اقتصاد فى أمريكا اللاتينية، وثالث أكبر شريك تجارى للولايات المتحدة، فبينهما تبادل تجارى يقدر ب 557 مليار دولار فى العام الماضى. ويقول معارضو أوبرادور، إن تعاطفه مع اليساريين يخاطر بتحويل المكسيك إلى «فنزويلا» جديدة، وحذروا من أنه يسير على نهج استبدادى ويسعى إلى التشبه بالرئيس الفنزويلى الراحل هوجو شافيز، وأنه سيدمر اقتصاد المكسيك بنفس الطريقة التى حدثت فى فنزويلا، وقد رفض أوبرادور مقارنته بقادة فنزويلا، قائلًا إنه لن يقوم بمصادرة الممتلكات الخاصة، أو سيسعى لإعادة انتخابه بعد انتهاء فترة ولايته. وعلق استيفيز، إن المخاوف من أزمة على غرار فنزويلا مبالغ فيها، فى حين قال السياسى الأمريكى بيرنى ساندرز، «أنا لا أعترف بأن جميع اليساريين غير ديمقراطيين، فعندما يكون لديك جيل طويل من إخفاقات النخبة، تحتاج إلى دفع البسطاء لتغيير الأوضاع» . بين كونه سياسيا يساريا متعصبا لمصلحة بلاده أو نسخة جديدة من شافيز تتأرجح الآراء .. إلا أنه فى كل الأحوال يرى الشعب المكسيكى فى أوبرادور طوق نجاه آملين أن ينقذهم من معاناتهم، التى ظلت على مدى عقود طويلة.. فهل سينجح فى تحقيق آمالهم خلال السنوات القادمة، وسيتمكن من قيادة بلاده نحو اقتصاد أكثر قومية ومؤسسات أقل فسادا وتهدئة العنف أم سيهوى بها لأسفل.